رغيف البقاء ..

لبابة أبو صالح

ـ آه وألف آه .. مؤسف جدا جدا ..

حملق أدهم في وجهي يبحث عن سبب الآه .. ولمـَّــا لم يجده ثبت نظرة استخفاف لوجهي و قال :

ـ ما هو يا صديقي ذلك الذي ينطقك بالآه .. هل أغمد الحب براثنه في قلبك .. ها أخبرني .. من هي ؟! هل هي جميلة ؟!

تركت التحديق في الليل وضوء القمر الفضي الفاتن .. نظرت إليه وهو يسحب نفسا طويلا من الشيشة ويطلق الدخان بتفنن ..وقلت بيأس من أن أجد فيه أذنا تنصت أو تعي ما سأقول :

ـ لا يا عزيزي .. تركت الحب والعشق لأمثالك .. وأطلقت آهتي لما أراه أمامي ..

أخرج الخرطوم من فمه وسألني بارتياب :

ـ لما تراه أمامك .!؟ أتقصد أنا ؟!

قلت بحنق :

ـ لا , بل ما يشبهك ؟!

ضحك ساخرا من قولي وقال بتهكم :

ـ لكن يا شكري .. لا أحد أمامك ويشبهني إلاي ؟! هل تهذي أم أن الحمى تفترسك ؟!

ـ نعم , هي الحمى يا أدهم .. لكنها .. حمى من نوع آخر !!

ـ !!

ـ حرارتها تحتبس داخلي .. وتضرم نارا تتأجج بقوة كلما تذكرت المأساة ..

ـ أية مأساة أيها الفيلسوف الشاعر ؟!

ـ نحن يا أدهم .. كيف كنا في الماضي .. أي اسم كنا نحمله .. وأي أثر كان له .. ( عرب مسلمون ) .. ياه .. كان قويا جدا .. وله صدى لا ينتهي .. كم أشعر بالغيظ ..

ـ أ تشعر بالغيظ لأننا كنا أقوياء ؟!

ـ لا أيها الغبي .. أشعر بالغيظ لأن القوة تبخَّرت .. بقينا عربا كاسم فقط  .. اسم أجوف لا يخيف إلا الفئران ..

ـ الفئران !!!

ـ آه من خوائنا ..

ـ على رسلِك يا صديقي .. أ تحمل هم العالم أجمع ؟!

ـ لا يا حبيبي .. أترك الهم للكبار والعظماء لأقف مبتسما واثقا من أنهم لن يصنعوا شيئا .. ما هيك !؟ لمن أتركه بالله عليك ؟!

ـ ليس المهم لمن تتركه .. السؤال لم أنت من يحمله ؟! من تظن نفسك ؟!

ـ نعم , أعلم أنني منهم ؟! لا شيء البتة .. وهذا ما يزيدني غيظا ..

ـ كفاك .. هيا .. هيا .. خذ نفسا من هذه وروح عن نفسك .. لا شيء يستحق هذا العناء ؟! هيا ..

ـ وأنت أيضا تحمل منطقهم .. وتنام نومتهم .. لا يا أدهم .. آن أن نفيق .. آن أن ننتحب لما ضاع .. ولنفكر ملياً كيف نعود كما الماضي .. أعزَّاء أشداء على الكفار رحماء بيننا .. آن أن نحكم العالم بقبضةٍ من حديد .. أ ليس كذلك !؟

قطب حاجبيه .. ونظر بعينين تسددان اتهاما إلي :

ـ هل تتدرب لأداء دور البطولة في مشهد صلاح الدين الأيوبي على مسرح الجامعة !؟

هززت رأسي ببرود وقلت بشرود :

ـ نعم .. هنا يكمن الأسف !!

ـ ماذا .. لمَ لمْ تخبرني لأؤدي دور الإمبراطور الصليبي .. أ هذه هي الصداقة ؟!

تركت شرودي و نظرت إليه :

ـ لكنني لن أؤدي أي دور ..

ـ فكيف تقول نعم !؟!

ـ نعم .. بمعنى أننا لم نعد نذكر تاريخنا العريق إلا كذكرى .. مجرد ذكرى .. قناع من ذهب نرتديه على خشبة المسرح .. و نشعر معه بالعزة .. ألم أقل لك أنه أمر مؤسف ؟!

اتكأ على ذراع الكرسي وقال مقلداً حسرتي :

ـ ربما معك حق .. قناع من ذهب ..

ـ ماضٍ نعتز ونفخر به .. بساط حريري كان تحتنا ونحن من فرَّط فيه .. و هم سحبوه بكل سهولة لنبقى في العراء !!

ما يغيظني أننا لم نبدِ أي مقاومة .. لم نفكر في استعادته .. ابتسمنا وجلسنا ننتظر أن يعيدوه لنا .. وهم يلقون إلينا بالوعود الكاذبة .. ويُصْمِتُون جوعنا للعزة والكرامة برغيف من الدولار ..

أتعلم ما الذي حدث لنا بعد أن أكلنا الرغيف !؟

صرنا بدل أن نطلب بساطنا وحقَّنا .. نطلب رغيفا آخر .. فنحن أدمنَّا طعم الأول .. وصار الحصول على مثله  هو كل غايتنا .. صار رجاؤنا وتذللنا إليهم ليرموا لنا برغيفهم ..

ـ صديقي .. أي رغيف وأي بساط !؟

أشعر بالدوار .. أرجوك كلمني بوضوح ..

ـ لا يا عزيزي .. الوضوح في هذا الزمن الأغبر أفكار مدمرة .. وشجاعة كبيرة علينا .. الوضوح إرهاب .. والإرهاب جريمة .. ونحن دعاة سلام مسالمون ونطالب بالسلام .. وإن صرخنا صرخةَ الشجاعةِ فلن نحصل على الرغيف .. أ نسيت يا عزيزي ؟!

غمغم بملل :

ـ نعم .. الرغيف مرة أخرى ..

ارحمني يا أخي .. الثلاجة مليئة بالخبز .. خذ ما شئت منه ..

ـ لا يا ذكي .. رغيفهم بدقيق آخر فاخر .. نحن لا نمتلكه .. رغيفهم ألذ ..

ـ يا إلهي .. أي عقاب هو أنت ؟!

ـ هي الحمى يا صديقي .. لكن لا تخف .. لن تلبث إلا وتزول لأعود ذلك العربي الذي يطلب بتذلل رغيف البقاء .. و رضاهم .. وسأمشي بجانب الجدار ويا رب الستر ..

تنهد بارتياح ليأخذ نفسا طويلا آخر من ( المعسل ) :

ـ جيد .. ها أنت عدت كما كنت .. الحمد لله على العقل ..

ـ نعم .. الحمد لله ..