جرح كالنهر
جرح كالنهر
نعيم الغول
بين الحجارة و الحطام ، و بيديها اللتين أذبلتهما ستون خريفا ، جلست تحفر حول قدم برزت من تحت الركام.
في ذهنها تساؤل تحاول ان تبعده :" أهـو هـو ؟" .
لاحت لها نسمات جنين المخيم وقد هجرت برودتها حين ذابت آخر ثواني الصباح أمام لهب الظهيرة القادم .
بالقرب منها انهمك شاب ممزق الثياب بدا في العشرين من عمره بكتابة كلمات على جدار منزل تداعى من أثر صاروخ او قذيفة مدفعية أو ربما جرافة . حين فرغ ابتعد قليلا ليقرأ . كانت العبارة بالإنجليزية تقول : "Is this moral ? " واتبعها بالعربية ( هل هذا أخلاقي ؟) .
ابتعد يجر نفسه .
بعضه كان يحترق.
وفي قلبه ظلّ للسؤال.
واصلت العجوز الحفر بيديها . أبعدت حجرين . انكشفت الركبة . أثر قديم عليها يكاد لا يبين ربما وقع عليها او من التعذيب في سجن ما. لكنها لم تطل التفكير في السبب بل كانت لا تزال تسأل " أهو هو ؟"
اقترب رجل في أواخر الأربعين من عمره . توقف مليا أمام العبارة . أمسك علبة الدهان والفرشاة اللتين تركهما الشاب وكتب بالإنجليزية أيضا :" Who cares , brother? " اتبعها بالعربية أيضا ( من يهتم يا أخي ؟) . أدار ظهره مبتعدا وهو يترنح من السير على حجارة و حطام البيوت الذي خلفه الاجتياح الأخير للعدو ، وبدا له أن كل شيء حوله صار آذانا تضج بالصمم.
نظرت المرأة حولها . طلبت مساعدة من شابين كانا غير بعيدين عنها . أخذوا جميعا يحفرون ويبعدون الحجارة . في عينيها بدأت تتجمع قطرات .. تحبسها المرأة . تغمض عينيها كي لا ترى سترته .. قميصه الذي اشتراه قبل شهر .. صدره الذي يشبه غابة استوائية يشقها كالنهر جرح قديم . بقوة هائلة كانت تمسك بتلابيب السؤال الذي أوشك ان يفارق ذهنها دون عودة :" أهو هو ؟"
اقترب شاب دون العشرين من العمر . تجولت عيناه في المشهد الكافكوي واستقر بصره على الجدار . تحركت الفرشاة في يده نزقة متعجلة رسم الكلمات . كتب بالعربية:
( لا أسئلة . لا أجوبة . لا لوم !)
اخترقت سمعه ضحكات صبية يسخرون من الجدران التي انتصبت جثثا هامدة . نظر إلى السماء طويلا وتلألأت في مخيلته صور حور وترانيم ملائكية . ابتسم لخضرة الغد القادم .وابتعد وهو يتحسس جسده قطعة قطعة قطعة قطعة قطعة ………. قطعة !