الأستاذ مُنير
مصطفى حمزة
الأستاذ مُنير جاري في غرفة المدرسين هنا في الخليج، عمره سبعٌ وخمسون سنة منها ثمان وعشرون غربةً في دول الخليج . في بلده بنى عمارة كاملة تدرّ عليه من الإيجار مبلغاً ضخماً كل سنة ، ويملك أيضاً هناك محلاً تجاريّاً رائجاً جداً بحسب ما يتناوله أهلُ بلده الذين يعرفونه هنا .
يحمل الأستاذ مُنير من الأمراض عشراً منوّعةً ! السّكّر والضغط ، والروماتيزم في الركبتين وانقراصَ الرقبة والقرحة المعويّة ، هذا ما نعرفه أنا وزملائي ، ولكن يبدو مِنْ وَهَنِهِ أنه يحمل أنواعاً أخرى من الأمراض لا يُفصِح عنها !
يُشارك زميلاً لنا السكنَ في بيت عربيّ بضاحية المدينة . وسيارته صغيرة قديمة متهالكة من ثمانينات القرن الماضي !
وهو لا يُسافر إلى بلده وزوجته وأولاده في عطلة نصف العام الدراسي ، بحجة أنه لو سافر إليهم – كما يقول – لقضى الإجازة في " استقبل وودّع " من كثرة الضيوف والزائرين ! لذلك يكتفي بمرة واحدة فقط في نهاية العام ..
اشتكى لي مرة عقبَ عودتنا من الإجازة الصيفيّة قائلاً :
- تصوّر يا أستاذ كريم ؛ ابني الصغير لا يُناديني " بابا " بل يقول لي " يا خالو " ! وبناتي الثلاث اللواتي في الجامعة لا أعرف أين يذهبن خارجَ البيت حتى منتصف الليل ! أمهنّ تعرف ... وهي التي تأذن لهن ّ ! أجد نفسي غريباً بينهم يا أستاذ كريم !!
والأستاذ مُنير، بكل صراحة وأسف ، حرامي ! نعم حرامي ، ولا يشعر بأي حرج في ذلك ! الأمر عنده عادي جداً ! مُجرّد عادة قديمة يُمارسها بكل أريحيّة وهدوء !! يتناول بكل بساطة قلماً لزميله نسيه على الطاولة ويودعه حقيبته ! دبّاسة المدير : في الحقيبة ! ثقّابة الوكيل : في الحقيبة ! فأرة الحاسوب – حاسوبي أنا للأسف – قفزتْ حين خرجتُ من الغرفة لدقائق واختفت في الحقيبة ! شاهده أحدهم لكنه خجل فسكت !! بعد كل حصّة له يفتقد الطلابُ من أشيائهم : أقلاماً ، آلاتٍ حاسبة علبَ الهندسة !
ويتسوّل من الطلاب بكلّ دناءة ! يطلب منهم الفواكه والخضارَ فيجلبونها له من عِزَبِهِمْ ؛ ولايُبالي حين يراه الجميع في نهاية الدوام يحمل أكياساً مليئة ومختلفة الأحجام ، ويودعها سيارته !
والأغرب - الذي لم أكن لأصدقه لو لم يُحدّثْنا به شريكُه في السكن – أنّه بين الفترة والأخرى يجوب المدينة يجمع قطعَ الخشب الصغيرة من أمام المباني التي تكون قيدَ الإنشاء ، ويملأ بها صندوقَ سيارته ، ثم ينقلها إلى سكنه ليستخدمها وَقوداً يطبخ به فوقَ أحجارِ موقدٍ صنعه بيده ... توفيراً لثمن الغاز!!
ونحن – المدرسين - يَطيبُ لنا أن نصطبح بالقرآن الكريم في غرفتنا فهو يشرح صدورنا قبل أن نلج غرفَ التعذيب أقصد التعليم !! أمّا هو فيصطبح بـ " حكم علينا الهوى " و " بتلوموني ليه " و " لا تكذبي " وأمثالِها من الأغاني !
هو الآن – ومنذ بضعة أيام - يرقد في غرفة الإنعاش بالمستشفى ، يُعالَجُ من آثارِ نوبةٍ قلبيةٍ حادّةٍ أصابته عقبَ اتصالٍ من زوجته ؛ طلبت فيه الطلاق !!