ليلة عيد الميلاد

غرناطة الطنطاوي

غصّت الغرفة بعواطف مشتتة، وآهات حرّى، وتنهدات تصدر عن قلب مكلوم... ذرفت عيناها دموعاً ملتهبة مدرارة، تبكي سوء العاقبة، وأياماً خوالي قضتها في سعادة وحبور، كم هيأت نفسها لهذه الليلة، ليلة عيد الميلاد، مع أصدقائها لتحييها بهجة رومانسية، ورقصاً حالماً، فهذه الليلة لا كالليالي.. إنها ليلة أُنس ومرح، تئد فيها متاعبها وهمومها..

نظرت إلى زاوية الغرفة حيث يجلس زوجها القرفصاء، دافناً رأسه بين ركبتيه، عاقداً ذراعيه فوق رأسه المثقل بالأحزان.. صرخت في وجهه صرخة حزن ذبيحة:

- اذهب وادعُ ما تبقَّى من الأصدقاء، لقد سرق صلاح الدين قدسنا، فهل يسرق فرحتنا بعيدنا.

رفع زوجها رأسه بتثاقل ، ورمى إليها نظرة غريبة تحمل معاني مبهمة، وأردفها بابتسامة سخرية وتهاون.. ثم سرح ببصره إلى بعيد.. بعيد جداً.. إلى تسعين سنة خلت.. يوم دخل أجداده الفرنجة القدس محتلين مخرّبين، ضاربين عرض الحائط كلّ القيم الإنسانية والحضارية.. كم يندى جبينه خجلاً لهذه الذكرى المفعمة بالنصر الرعيب الممزوجة بدماء بريئة.

 ياله من تاريخ أسود يتحدّث عنه لأطفاله المشوقين لسماع بطولات أجدادهم وانتصاراتهم الباهرة... ما أكثر ما زيَّن من حقائق، وبيّض ما اسودَّ من أخبار وصحائف.. وهاهو ذا نصرُ صلاح الدين يطوي نصرهم، ويلقيه في زبالات التاريخ، ويتوّج هذا النصر بسجايا لا تكون إلا لملاك...

أنّى له أن ينسى تلك الأم الملتاعة على رضيعها ابن الأشهر الثلاثة، التي وقفت بباب خيمة السلطان، وأخذت تبكي وتنوح وتحثو التراب على رأسها ووجهها، فسمع السلطان نحيبها، فخرج إليها، والدنيا ملك يمينه، وما إن عرف قصتها حتى دمعت عيناه، وأمر الجنود بالبحث عن الرضيع الضائع، ولم يهدأ له قرار ولم يجلس على عرشه حتى أُحضر الضائع، وسلّمه بيده إلى أمّه المشدوهة بعطف السلطان وكرمه، فلو حدَّثت قومها بهذا الأمر، لظنّوا أن بها لُوثةً عقلية.

هزَّ الزوج رأسه بعنف، ثم جلجلت ضحكته في المكان.. ظنّت زوجته أنّ الحزن أخذ عقله، فضمّت إلى صدرها الصغيرين وانزوت في مكان قصي..

هدَّأ الزوج قليلاً من انفعالاته المتناقضة، وانطلق لسانه يتكلّم بصوت أجش غاضب حزين:

- لقد سمح صلاح الدين بافتداء أهلينا لنا، وإطلاق سراحنا، وهذا كرم منه لا مثيل له... وهاهم أولاء الأصحاب يعودون إلى وطنهم.. ولكن.. نحن من يفتدينا،، أهلي فقراء لا يملكون الفدية، وأما أهلك... فإنهم لا يهمهم من أمرك شيء.. كيف سيعاملنا هذا المنتصر.. إنه رؤوف عطوف... ولكن قد تكون هناك نهاية لهذا العطف... أشعر وكأنني متعلّق بطاحونة هواء...

انتبهت الزوجة على طرقات خفيفة على باب البيت... التقت نظراتها بنظرات زوجها التائهة... تُرى من يكون الطارق... أصدقاؤنا قد رحلوا وبعضهم باقون وحالهم كحالنا... ازداد الطرق على الباب... نهضت الزوجة وفتحت الباب بحذر... ندّت عنها آهة مكتومة وصرخت :

- إنهم جند السلطان..

امتقع وجه الزوج، واصطكّت أطرافه... ماذا يريدون؟.. ما الذي أتى بهم في هذا الجو العاصف، والمطر الغزير، والأزقة موحلة زلقة من الصعب المسير عليها... لابدّ أنّ هناك أمراً خطيراً.

ارتفع صوت أحد الجنود قائلاً:

- افسحوا الطريق للسلطان الناصر...

ماذا؟ السلطان في بيتي؟ ياله من أمر خطير!..

قفز إلى زوجته وولديه، وخبأهم وراء ظهره..

دخل السلطان بوجه باسم مشرق، يفرك يديه من البرد، وقد غرقت أقدامه في وحل كثيف، وأخذ يتكلم بصوت هادئ رصين:

- عيدكم سعيد.. نأسف لإزعاجكم وترويعكم... تقبّلوا مني هذه الهدية البسيطة بهذه المناسبة العزيزة عليكم...

انبسطت أسارير الزوج وتهللت، واقترب من السلطان يحييه برهبة وخنوع، تدحرجت كلمات الشكر والعرفان على لسانه:

- هذا الكرم فوق التصوّر أيها السلطان النبيل... لا أجد من الكلمات ما أعبّر بها عن امتناني وتقديري...

رفع السلطان يده ليكفّ المسكين عن كيل المديح والثناء له، ووزّع الطعام واللباس على الزوجة والأولاد، وأعطى صرّة من المال للزوج المبهور ثم استدار إلى الباب وخرج مع صحبه ليكمل طوافه على النصارى الباقين، تتقدّمه العظمة والبهاء، وتحيط به آيات الشكر والثناء، ويحفر المجد ذكراه على جبين الخلود.

أفاق الزوج من ذهوله وابتسم لهذا الحلم اللذيذ الغريب، ولكن فرحة الأولاد ردّته إلى الواقع. إذاً هذا ليس حلماً، إنه واقع عسير على الحلم، بل أكبر منه وأحلى..

واكتفى المسكين بأن يذرف دمعتين حارتين على ماضٍ ملعون ولّى، وحاضر بسّام أقبل، يقوده سلطان منتصر لا يعرف الحقد سبيلاً إلى قلبه.