حاميها حراميها

حاميها حراميها

الطاهر إبراهيم*

دخل مدير إدارة المخابرات العسكرية غرفة رؤساء الفروع والأقسام التي يتم فيها اللقاء السنوي لمراجعة ماتم تنفيذه من خطة العام الفائت الأمنية للقطر، ووضع الخطة المستقبلية للعام القادم. 

وقبل أن يدخل اللواء إلى صالة الاجتماع، استمع إلى طرف من الحديث الذي كان يدور بينهم، وهو واقف بالممر يدخن سيغاره الهافاني الفاخر، ما جعل الغضب يعلو محياه مما سمعه من أحاديثهم، التي كان جلها يدور حول ما يتعرضون له، أثناء ممارسة مهامهم، من المتاعب والأخطار،التي تكتنف أعمالهم. وعليه فقد أراد اللواء  أن يرد عليهم التحية بمثلها، فبادرهم بالحديث قبل أن يستقر فوق كرسيه خلف مكتبه "المتواضع" المصنوع من خشب الأبنوس، والمرصع بالعاج والصدف الشامي في أشهر مشاغل العاصمة. وقد بلغ من تواضع ذلك المكتب أن كلفته لم تزد عن ثلاثين ألف دولار فقط.

بدأ حديثه معددا الامتيازات التي يتمتع بها كل واحد منهم على حدة، ومنبها إلى المكانة التي يحظى بها الجميع مقارنة مع أمثالهم من الضباط الذين تخرجوا معهم في دورة عسكرية واحدة، موجها كلامه ذلك إلى كل مدير فرع على حدة، الواحد تلو الآخر.

ابتدأ كلامه مصوبا بصره إلى رئيس فرع المخابرات في محافظة الشمال الكبير:

أما أنت يا عميد مصطفى، فإننا نحيي فيك ما بذلته من مجهود في ضبط الأمن في تلك المحافظة، ونثني على براعتك في كسر شوكة شعب تلك المحافظة، التي عجز المستعمر الأوربي أن يكسر شوكتها، على مدى ربع قرن، وإن كانت هذه الجهود وتلك البراعة قد تمت بدفع أثمان باهظة، لعل أظهرها قيام عناصرك من "زوار الفجر"، باقتياد "آباء" المطلوبين من بيوتهم ليلا، ثم رميهم بالر صاص وإلقاء جثثهم على قارعة الطريق. 

وإذا كان "المعلم"قد قدر لك تلك الخدمات،فإنه لم ينس أن يغمض عينه عن قيامك باستثمار مركزك في المدينة أحسن استثمار. وسأعدد لك ولزملائك بعض تلك المنافع التي درّت على جيوبكم "ما فتح ورزق"،دون أن أنسى أن أذكركم أن "أجندة المعلم" قد سجلت كل تلك الفوائد، حتى إذا ما نسي أحدكم، "ولعب بذيله"،أُخرجت تلك السجلات من درج خصص له ضمن الدولاب الكبير في مكتب "المعلم" السري. 

وعلى سبيل المثال لا الحصر مما هو مدون في أجندة المعلم الخاصة بك يا عميد مصطفى أن لديك سلسلة تزيد عن عشر سيارات "ميكرو باص" تعمل في نقل الركاب على الخطوط الداخلية في مركز المحافظة. ليس هذا فحسب فإن سائقي تلك السيارات من منسوبي فرع المخابرات لديك، يعملون في وردية مسائية بعد انتهاء دوامهم الصباحي. ولا يقل الدخل اليومي للسيارة الواحدة –ودعنا نحسب ذلك بالدولار لسهولة المقارنة- عن 50 دولار. وأنت شريك (النص بالنص) في عشرة من المشاريع التي تم ترخيصها حسب المرسوم (10) لعام 1990، ولم تدفع من جيبك قرشا واحدا في تمويل أي من المشاريع تلك، بل  كانت مساهمتك الوحيدة هي استخدام نفوذك لدى رئيس مجلس إدارة البنك التجاري لتأمين القروض التي يدفعها البنك، والتي تغطي نصف تكاليف تلك المشاريع. وهي المساهمة التي تعهدت بها الدولة عند إصدار المرسوم أعلاه. وأنت تعلم أن أكثر من 90% من المشاريع التي تم ترخيصها حسب ذلك المرسوم قد استنكف أصحابها عن تنفيذها، لأن البنك التجاري لم يستطع أن يؤمن لها نصيبه من المساهمة، لعدم توفرالسيولة التي استهلكتها المشاريع المدعومة من أصحاب النفوذ أمثالك. والبعض مما بدئ بتنفيذه من المشاريع، أعلنت إفلاسها، لأن أصحابها لم يعرفوا الطريق الموصلة إلى آمر الصرف (إياه). وشعارك مع شركائك، "بارك الله باللي نفع واستنفع".

وأظنك لم تنس يا عميد مصطفى الأرباح الجمة التي جنيتها من مساهماتك المالية في المشاريع والمصانع التي كانت تملكها الشركتان القابضتان "جميلو" و "الطحان"، في تسعينيات القرن العشرين، والتي كانت تدرّ عليك أرباحا سنوية أكثر من 45% من رأس مالك الذي ساهمت به. وقبل أن تقوم الدولة بوضع يدها على ممتلكات تلك الشركتين، كنت قد قمت بسحب جميع رأسمالك فيهما.والكل يتذكر الكارثة الاجتماعية التي تسببت بها تلك الشركتان، بعد أن استنزفتا مدخرات المواطنين الذين غُرر بهم بعد أن ظنوا أن هاتين الشركتين ستؤمنان لهم الحياة الرغيدة. فقد كان المواطن يبيع بيته الذي يسكن فيه،والزوجة تبيع حلي عرسها أو ما تبقى منه،والشاب يتخلى عن ثمن جهاز عرسه المؤجل حتىإشعار آخر. وقد أودع الجميع تلك الأموال لدى واحدة من تلك الشركتين، حيث كانت المنافسة محتدمة بينهما، برفع قيمة العائد عن كل مبلغ يسحب من إحداهما ويودع لدى الأخرى. وكانت النتيجة إعلان الإفلاس، وخسارة الجميع كل أموالهم عداك أنت ياعميد مصطفى وزملاءك مدراء فروع الأجهزة الأمنية الأخرى في محافظة الشمال الكبير، بعد أن عرفتم بقراررئيس الوزراء–قبل صدوره-الذي قضى بوضع يد الدولة على الشركتين.

ولن أتوسع كثيرا في حديث أصبح معروفا لدى الجميع عن مشاريعك الزراعية المقامة على أراض استصلحت ثم وضعت يدك عليها، وطلبت من وزير الري جر مياه السد إليها. فأنتجت من كل صنف ولون.

 وأظنك لا تنسى البيوت التي صادرتها من أصحابها الذين اضطروا للهروب من البلد بعد ملاحقاتك الأمنية لهم،حيث قمت بتأجيرها حسب قانون الإيجار "السياحي"، الذي لا يتطلب وجود المالك الأصلي. ثم البركة فيكم فإنكم تسهلون كل صعب أمام المستأجر السياحي طالما أنه يدفع بالعملة الصعبة. عندما وصل اللواء في حديثه إلى تلك الانقطة، رفع بصره وصوبه في وجه العميد مصطفى، فوجده يتصبب عرقا من ذلك الموقف المحرج، الذي لم ينقذه منه إلا صوت الهاتف يرن بإصرار. وعندما تناول اللواء سماعة الهاتف، تغيرت قسمات وجهه، ورق صوته وابتسمت أساريره، وكأن الواقف أمامهم الآن، ليس هو ذلك اللواء الذي كان يصول ويجول قبل لحظات، فعرف الجميع،-وقد مر كل واحد منهم في مواقف مشابهة- أن المتكلم على الطرف الآخر إنما هو من الجنس الآخر.

وبعد أن انتهت المكالمة التفت اللواء إلى العميد "مدحت"رئيس فرع المخابرات في محافظة الغرب البحري، التي تغسل أقدامها( آخر ركن من أركان الوضوء) يوميا بموجات البحر، وكأنها تتوجه بعد ذلك إلى الله، تشكو إليه ظلم ضباط وأفراد ذلك العميد، وتسجل على صخور ساحلها ورماله، الظلامات التي يقترفها أولئك بحق المساكين من خلق الله. 

أماأنت يا عميد "مدحت"فلن أعيد على مسامعك المنافع التي تشترك بها مع العميد مصطفى ،وهي جميع ما ذكرت باستثناء عوائده من شركتي "جميلو" و "طحان"، وهي ليست بالقليلة .ولكنك قد تتفوق عليه بأسطول الصيد البحري الذي يدر عليك الكثير الكثير. غير أن "بيضة القبان"، التي قد نعجز عن تقدير وزنها، إنما البضائع الأجنبية المهربة والتي تشمل كل شيء. وحتى البضاعة التي تنتجها "حصرا" بعض مصانع القطاع العام في عروس الساحل، فقد كنت تشتريها بالعملة المحلية وبأسعار الكلفة، وتبيعها بالعملة الصعبة بعد أن تلصق عليها اسم "ماركة" أجنبية لا تعدم أن تجد من يتفنن لك بانتقاء تلك الأسماء.

أما ما يأتي بحماية الأسطول الحربي الوطني من الدول الأجنبية فحدث عنه ولا حرج. ولا تظن أني أجهل أنك كنت تستظل بالقرابة التي تربطك بالمعلم الكبير من حيث يدري أو لايدري. وكان اللواء أثناء حديثه مع العميد مدحت يسارقه النظر، فوجده لم يطرف له جفن لأنه كان يتمتع بذلك الظل الذي أشار إليه اللواء، بل إنه كان يعمل ما يعمله، من دون أن يحاول إخفاءه عن القريب والبعيد.

سحب اللواء بعد ذلك كرسيا وجلس عليه، بعد أن كان واقفا على قدميه متكئا على مكتبه. وبعد أن أخذ جمرة ،من الموقد الأوروبي المحفور في جدار صالة المكتب، وأشعل سيغارا سحب منه نفسا عميقا، ونفث الدخان من أعماق رئتيه، وتبعه ببصره وهو يخرج كدخان بوري"الصوبا"(1)التي كان يتدفأ عليها،أيام زمان، حين كانت أمه توقدها بالحطب أو "الجلة" (2)، لأن والده ما كان يملك ثمن المازوت الذي يوقد به مدفأة المازوت، ومن دون شعور منه،عقد خياله بسرعة البرق مقارنة طريفة بين موقده الحالي الفخم وتلك الصوبا، ولسان حاله يقول سبحان مغير الأحوال. ولأن تلك الخواطر أثارت لديه شجونا وذكريات مؤلمة لا يحب أنها  كانت، فقد قطعهها بسرعة وعاد بنفسه إلى قاعة الاجتماع متابعا ما انقطع من حديث.

أماأنت ياعميد فرزات،-قال جملته تلك موجها حديثه إلى رئيس فرع مخابرات العاصمة- فلست تقل بأي شكل عن زميليك مصطفى ومدحت، وإن كنت تزعم أن يدك قصيرة لأنك في العاصمة تحت سمع وبصر "المعلم الكبير"، وهنا سمع صوت الهاتف المحمول "الموبايل"، الموضوع أمامه على المكتب يرن بنغمات موسيقية تدل على نوعيته الفاخرة. وقد عرف الحاضرون من خلال الحديث الدائر، أن المتكلم هذه المرة رجل الأعمال أمجد مدير عام إحدى شركتي الهاتف المحمول. انهى اللواء الحديث بسرعة، بعد أن حدد موعدا مع المتصل على الطرف الآخر،ملتفتا إلى العميد فرزات ومستأنفا حديثه الذي انقطع قائلا : وبمناسبة ما سمعته مني أثناء حديثي مع أمجد بك، فإني أذكرك بالحصة التي نلتها من ترسية الهاتف الخليوي على الشركتين اللتين فازتا بتلك الصفقة ، ومع أن حصتك تلك لا تزيد عن عشْر تلك الصفقة، فقد قبضت عنها أكثر من 500 مليون دولار.

ولأن الآخرين لا يقلون شأنا عمن سبق. دعوني أكتفي بمن ذكرت منكم، دون أن أغفل المقدرة الاقتصادية الفذة للعقيد رافع مدير فرع الوسط الصحراوي،فقد كنت أتابع باهتمام نشاطه الاقتصادي ، وقد لفت انتباهي مقدرته الرفيعة على الاستفادة من التبادل التجاري على الحدود مع الشقيق الشرقي، حيث كان منشارا حادا يأكل من البضائع المشرقة ويأكل من البضائع المغربة، تماما كما يقول المثل المصري "طالع واكل نازل واكل" .

يبقى أن أذكّر ،كما تعلمون، أن مهمتنا الأساسية هي حفظ الأمن، وحفظ أرواح وكرامة وأموال أهل البلد.وإذا كان "المعلم" قد أغمض عينيه عن التجاوزات التي بدرت منكم ومن ضباطكم، وفيها من الانتقاص من كرامة وأرواح وأموال المواطنين الشيء الكثير، وهو يعلم بها بالتفصيل، فليس ذلك ضعفا منه أو جهلا، وإنما تجاوزا منه وتقديرا لما قمتم به من ملاحقة كل "شاذة وفاذة"، من شأنها أن تهز استقرار النظام.

ولقد سمعت منه أكثر من مرة أنه ربما يطرح قانون من أين لك هذا ؟، بعد أن "زودها البعض حبتين"، وامتدت أيديهم إلى لقمة عيش الفقير في التوظيف أو في إنجاز المعاملات –يلمح بذلك إلى الإتاوات التي يفرضها ضباط المخابرات على كل طالب وظيفة أو إنجاز عمل-، وكنت دائما أطلب منه تأجيل تطبيق ذلك القانون. وهنا سرت همسة من العميد مدحت لم يكد يسمعها إلا من كان بجانبه، وقد غض اللواء أذنه عن تلك الكلمة لأنه يعلم فحواها، وهو أن هذا القانون إذا طبق فيجب أن يطبق على الجميع ،وسيطال عندها هذا القانون سيادة اللواء والعماد وربما ال....

لم يكن أحد من المجتمعين منتبها إلى أن هناك من كان يستمع إلى الحديث الذي كان يدور في قاعة الاجتماع. فقد كان الرقيب الأول العجوز أبو سعيد، الموكل بتقديم الشاي والقهوة للحاضرين، يتابع كل كلمة من ذلك الحديث.

 وضع الرقيب الأول يده على حافظة نقوده التي كانت شبه فارغة، وما فيها من نقود لا يكاد يكفي لشراء خبز عياله إلى آخر الشهر. ثم زفر زفرة حرى خرجت من أعماقه قلبه وهو يهمس من دون أن يُسمعَ حتى أذنيه: "حقا إن حاميها حراميها!!."

* عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام 

............ 

(1)الصوبا مدفأة توقد بالحطب أو المازوت وتختلف الواحدة عن الأخرى حسب نوع الوقود.

(2) الجلة .. فضلات البقر تجفف ويوقد بها شتاءً لقلة الحطب.