جحود وعقوق

نعماء محمد المجذوب

تداعيات موقف

جحود وعقوق

نعماء محمد المجذوب

أخذنا نتدفق من فم المصعد، ونتجه نحو رصيف الفندق، تملأ نفوسنا البهجة والسرور بعد قضاء ساعات من المرح والتعارف في صالة الأفراح بين صخب الموسيقى والثرثرة الناعمة، اصطدمت عيناي بشخص أبي العروس منتصباً بقامته الفارعة، وبصمت مطبق، ألقيت إليه بكلمة التهنئة المعتادة: "مبارك يا أبا عمار" ومن خلال نظرة خاطفة لمحت مخايل الألم على وجهه وفي عينيه، لم تغـطّ الفرحة بابنته ألمه، ولم تطفئ أحزانه التي تتوهج في صدره، كانت تلقي ظلالاً من الكآبة على ملامحه، استطعت من خلال نظرة واحدة أن أجول في أعماقه لأكتشف بأن بريق البهجة قد خبا تحت ركام من الحزن القاتم، وسرعان ما انتقلت عدوى الحزن إلى نفسي، وانتابني ضيق، وسرق الصمت الأليم سروري بالعروس ابنته، فهربت إلى مكان بعيد، وبقي هو ساكناً سكون التمثال، صامتاً في غلالة من الأحزان، متسربلاً بالكبرياء، مستنداً على عمود من الصبر والكتمان.

لذت بمنعطف في ظل جدار، لفني شجن وألم، وتركت لدموعي العنان تنهمر من غير قيود.

كان بكائي على أبوين عقهما ولدهما البكر، وأتعبهما كثيراً في تربيته، ولم يقصرا في الرعاية والإنفاق عليه حتى أصبح مهندساً يتباهيان به، ثم خطبا له ليهدئا من ثورة بركانه الذي لم يتوقف عن قذف الحمم واللهب من فمه، ومن سلوكه المستهجن، ولم يرحم أبويه وأخواته الشابات، ثم.. يفاجأون بزواجه خلسة من غير أن يشاركوه الفرحة ليلة زفافه.

"مبارك يا أبا عمار، عقبال عمار".

لم يدر أكثر الأصدقاء بما فعل هذا الابن بأبيه وأهله، كان يجيبهم بصمت أثقله الحزن، وبشفتين مطبقتين، أو بكلمات تخلو من نبض الحياة، وبنظرات باهتة مموهة، وهي تلتقي مع نظرات المدعوين المتألقة بالسرور.

بكيت من عقوق الأبناء في شخص أبي عمار، ثم تساءلت باستغراب:

- هل انهارت القيم والتراث في جيل اليوم؟!

أم أنها حالة فردية ونغمة ناشزة تسربت من النغم المتآلف المنسجم؟!

مَثُل خيالُ عمار في خاطري:

- ما هكذا يكون البر بالوالدين يا عمار، أدعو الله لك بالهداية والصلاح وصحوة الضمير.

لا بأس:

فالصبر والزمن يداويان القلوب الجرحى، ويرتقان ما تبعثر واندثر، إبكِ يا أب، لا تخنق دموعك وأنينك بكبريائك وجَلَدك، أسلها من نفسك زفرات وعبرات.

أرى الكثيرين يعانون من عقوق بعض الأبناء الذين يمزقون القلوب الحانية بتصرفاتهم العشوائية، وألفاظهم النابية المشحونة بآلاف "الأفّ" والشتائم وهدير الأصوات، لا يفكرون بما يفعلون، ولا يقدرون عواقب الأمور.

وأتساءل باستنكار:

- هل ما يبدر من الأبناء بسبب انجذابهم لحضارة الغرب الواهمة؟ أم هو الاضطراب الذي يصيب أفراد المجتمع بسبب الظروف الحالكة التي تحيط بهم؟!

أم هو الخلق الإسلامي الذي بدأ يندثر شيئاً فشيئاً متأثراً بالغزو الثقافي الوافد إلينا عن طريق الكثير من القنوات الفضائية؟

أم نحن المقصرون تجاه أبنائنا بالتوجيه والإرشاد وعلينا يقع اللوم وتحمل المسؤولية.

أم هو الوازع الديني الذي شفَّ ووهى تماسكه؟

تذكرت:

زرعت شجرات من نوع واحد في تراب الحديقة، وتعهدتها بالريّ والرعاية، نَمَت، وزهت بخضرتها ورونقها، وآتت أُكلها من الثمر، إلا شجرة واحدة أبت إلا أن تنمو بشكل مغاير عن بقية الشجرات، جفت أوراقها، ولم تؤت ثمراً.

حزنت لأن عنايتي كانت سواء فيما بينها، ولكن استعصت واحدة منها وتمردت.. ارتأيت بأن الحياة فرح وترح، صراع بين المتناقضات، لا شيء يدوم، أشبه بالزبد تحملها الأمواج العاتية ثم تلقيها هشة عند الشاطئ فتبتلعها الرمال، وهكذا تغمرنا الفرحة ثم لا تلبث أن تندثر تحت ركام من سلوكيات شاذة، تصفعنا من كل جانب وتخلف بحراً من الآلام والأحزان.