حمى الـ.. لا ..
حمى الـ.. لا ..
لبابة أبو صالح
بين الحشود وقف متأملا ما يصنعه معهم .. حاول استيعاب ما يفعله .. لم يعرف الغاية التي كان ينشدها قبل رضوخه للمسيرة .. قبل وجوده بينهم .. تعصره أجسادهم كحبة عنب .. يشعر بأجسادهم ساخنة .. نعم .. هي حرارة حمى القلب الذي يرتعش في صدورهم .. يخفق بشدة .. يكاد يتوقف .. الدم يسري في العروق بميوعة رهيبة .. فهل هم غاضبون ؟!
_ ما هذا الغضب الذي يختلقونه الآن ؟!
لا شيء .. حالة هستيرية .. ستنتهي .. بانتهاء المسيرة ..
شعر بالاختناق .. لم يعرف ممَّ بالضبط ؟!
ولم يحاول أن يعرف .. ستظهر له الحقيقة بعد أيام .. شهور .. سنوات .. ولن يحتاج إلى صياغة سؤال .. يولد منه إجابة تضيع في غياهب الحيرة ..
كانوا يهتفون من حوله :
تسقط الـ...
النصر للـ...
بالروح .. بالدم نفديك يا ...
سهلة هذه العبارات .. ماله الآن يشعر بها ثقيلة على لسانه .. لم هذا الثقل .. مرارة .. أهو سُمُّ الكلمات .. أم أنها كلماتٌ من السُّم ؟
_ كالعادة لا يجني سوى إشارات الاستفهام .. وعلامات التعجب ..
في البداية كان يهتف معهم .. ولكن بعد حالة الوعي التي اجتاحت نفسه .. صار يتأمل ما حوله بعقل الغائب .. يشعر بشيء من فقدان الذاكرة .. وتتزاحم الأسئلة في مخيلته وكأنها جراثيم قذرة انتشرت في وحل من الطين ..
" أين أنا , ماذا نفعل , ولم نحن هكذا " ..
يمشي مع الجموع بتلقائية .. جسده يتحرك وعقله عاجز عن العمل .. كل ما يصنعه هو أن يفرز أسئلة هلامية .. تتبعثر أجزاؤها في اتجاهات مختلفة .. ولا تتلقفها إلا الحيرة .. حيث الهاوية . والضياع ,كالزئبق ..
نعم ما زال يذكر حصة الفيزياء أيام الثانوي .. يذكر كيف سرق زجاجة الزئبق من المختبر ليلعب بها في منزله .. أفرغ الزجاجة على بلاط أملس أبيض .. تبعثرت كراتٌ صغيرة فضية .. لم يستطع جمعها .. فبعثره البكاء على هيئة طفل فقد طائرته الورقية مع ريح قاسية ..
هم نزلوا بتحريض حكومي :
" انزلوا واهتفوا لـ... , وعارضوا الحروب .. وطالبوا بالسلام " .. قوانين اللعبة ..
_ حتى في معارضة الحرب يحتاجون لأمر من فوق !!
هه ..
توسطت الشمس السماء .. تلقي بخيوطها الملتهبة على رؤوسهم التي أزخمها العرق .. و عافها نتنة برائحة الآه ..
( الشمس تضحك ) هكذا خيل إليه .. نعم إنها تضحك بشواظها الذي تلقيه على رؤوسهم .. نظر إلى الأعلى .. يبحث عن منفذ .. حدقت الشمس فيه .. وصارت تقهقه ..
( هل أحالته الحمى مجنوناً يهذي ؟! )
قالت وهي تضحك : " لم يسمعكم أحد .. أصواتكم مكبوتة " .. وعادت للضحك ..
شعر بالغثيان .. العرق بلل سترته السوداء .. ترك الملح عليها بقعاً رمادية .. يابسة كأمله ..
عند أذان العصر ..
انتهت اللعبة ..
وكالعادة .. لا فوز .. وكل الخسارة .. أصواتهم مبحوحة .. وحناجرهم ملتهبة .. عيونهم محتقنة .. ووجوههم كالحة .. ويأس دب في أطرافهم فأحالهم مشلولين .. في منزله .. ووسط صخب أولاده العشرة .. يجلس وحيداً في غرفته .. يستـعيد مقاطع تلك المسيرة .. يمسك رأسه بكفيه يضغط على جانبيه يحاول طرد الألم .. صداع موجع ..
بعد طول جلوس .. وبعد حروب من الأسئلة .. وبدايات نشوء إجابة .. قال بتفاؤل :
_ لو أن الغيوم تلبد السماء غدا .. فتكسر حرارة الشمس .. ربما تكون للمسيرة آنذاك نكهة أخرى ..