كلي لك يا أنا
قصة: عبير الطنطاوي
دخل إلى البيت مكفهر الوجه كئيب المنظر.. ورمى بنفسه على كرسي فاخر قريب من الباب، بينما كانت زوجته الحسناء (سميرة) جالسة على أريكة مخملية زرقاء اللون، رافعة رجلاً على رجل، ممسكة بيدها سماعة الهاتف تحادث صديقتها، ولما رأته بهذه الهيئة، انخطف لونها، وسارعت إلى إنهاء المكالمة، لترى ما يعاني زوجها.. سألته بلهفة الزوجة المحبة:
- خيراً؟؟
قال لها شاكياً:
- الشركة أفلست..
وفجأة انقلبت لهفتها وكامل أنوثتها إلى وحشية مخيفة، وانتفضت تتساءل:
- أفلست؟؟ اسمع.. استهتارك هذا، أنا لا أتحمل وزره، لا أنا، ولا أولادي..
لما سمع (فؤاد) هذا الكلام الغريب من زوجته، غادر المنزل لا يلوي على شيء..
أما (سميرة) فقد انهارت على أريكتها المخملية، وأخذت تفكر:
لابد أنها لعبة حتى يأخذ كل ما ورثته من والدي، وربما تسوّل له نفسه ويطلب مني ذهب عرسي.. لابد من حمل أغراضي وأولادي ومغادرة هذا المنزل إلى بيت أمي..
بعد دقائق دخلت (آمال) ابنتها الكبيرة إلى غرفة الجلوس وبادرت تحادث أمها:
- أخيراً أخبرك أبي بما حصل..
اندهشت (سميرة) من كلام ابنتها التي لم تتجاوز العشرين من العمر بعد وسألتها:
- أي خبر؟
قالت (آمال):
- لقد أخبرني والدي منذ سنة تقريباً أنه وقع في أزمة مالية حاول –مراراً- التغلب عليها، فلم يفلح، وأخيراً أفلست الشركة.
وهنا ثارت ثائرة (سميرة):
- هل هذا معقول؟ يخبرك أنت قبلي؟
قالت آمال:
- إن أبي كان يعرف مدى وقع الخبر عليك، لذلك حاول جاهداً أن يجنبك العلم بهذا الأمر، إلى أن خرج الأمر من يده..
قالت سميرة:
- اعلمي أنني لن أتنازل عن قرش واحد من أملاكي له.
قالت آمال في دهشة:
- ماذا أسمع يا أمي؟ ما هكذا ديننا ولا هكذا إسلامنا.. إن لم يكن مالك ماله، فلا حاجة لشركة الزواج بينكما أصلاً.
قالت سميرة:
- ما بقي إلا أن تعلّم بنت العشرين سيدة الأربعين..
قالت آمال:
- يا أمي.. الأمر ليس بالسن.. الأمر بالعلم.. منذ مدة طويلة وأنا أحضر محاضرات دينية في مراكز إسلامية مختلفة غيّرت فيّ الكثير وعلمتني الأكثر، وكم من المرات ألححت عليك أن تذهبي معي بدلاً من الجلوس أمام القنوات العربية أو مع النساء على فنجان قهوة مليء بالمعاصي والغيبة والنميمة.
نترت الأم نفسها وقالت بعصبية:
- أذهب إلى دروسك لأتعلم الطهارة والوضوء وهذا الكلام المعاد؟
قالت آمال:
- يا أمي وإن كان هذا كلاماً معاداً، لكنك في كل مرة ستجدين فائدة جديدة، ثم إننا لا نتكلم فقط بأمور الفقه، بل نتعلم أشياء أخرى تحتاجها كل امرأة في هذا الكون.
قالت الأم:
- مثل ماذا؟ ثم إننا تركنا الموضوع الأصلي ودخلنا في موضوع فرعي آخر لا علاقة له بموضوعنا..
قالت آمال:
- بل نحن في صلب الموضوع يا أمي الغالية.. ألست خائفة على أموالك؟
قالت الأم:
- بلى..
- إذن اسمعي هذه القصة الرائعة عن امرأة رائعة زوجة رجل رائع عظيم.. السيدة خديجة بنت خويلد، تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكان يتاجر في مالها، وبعد فترة بدأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يحب الاختلاء بنفسه في غار (حراء) للتفكر والتدبر، فكان يتزود لذلك بزوادة تكفيه لأيام، وعندما تنتهي يرجع إلى السيدة خديجة ليتزود مرة أخرى، ويصعد إلى الغار ثانية.. تصوري يا أمي لم تعترض أمّنا السيدة خديجة على ذلك أبداً، ولم تبد انزعاجاً من ذلك، بل كانت واثقة من رجاحة عقل زوجها عليه السلام، وحسن تصرّفه، فلم تكن لتشك في أمره أبداً، هذه الثقة المتبادلة بينهما جعلت زوجها (عليه السلام) حين أتاه الوحي وأثار الخوف الشديد في نفسه (عليه السلام) لم يجد سوى زوجته المَرْضيّة يخبرها بالخبر، وفضّلها على سائر أهله وإخوانه..
قالت الأم وكأنها اصطادت صيداً:
- ولم يقل لابنته، ولم يفضلها على زوجته كما فعل والدك..
قالت آمال:
- لأن أبي كان على علم بموقفك مسبقاً، ولم يجد فيك- عفواً يا أمي الغالية على صراحتي هذه- لم يجد فيك تلك الزوجة الحنون التي يلجأ إليها من غير خوف أو إحساس بالنقص.. أمّا السيدة خديجة، فكانت أول من صدّقه، وآمن بدعوته وأعانته عليها بمالها ورجاحة عقلها، وحسن أخلاقها.. تصوري أنها ربّت عياله أفضل تربية، كما أنها كانت تربّي معهم ابن عمه (علياً) رضي الله عنه، ولحسن خلقها ظل (صلى الله عليه وسلم) يحبها حتى بعد وفاتها، ويفضلها على سائر نسائه الكريمات رضي الله عنهن جميعاً. وبلغ به حبُّه إياها، ووفاؤه لذكراها، أنه عليه السلام كان كلما ذبح شاة قطعها وبعث بقطعٍ منها إلى صديقات خديجة ولم يكن يقبل أن يذكرها أحد بسوء، وكان يقول عنها:
"والله ما أبدلني الله خيراً منها.. آمنتْ بي إذ كفر الناس، وصدَّقَتْني إذ كذّبني الناس، وواستْني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني النساء".
ولما توفيت في السنة الثالثة قبل الهجرة، حزن عليه السلام عليها كثيراً ودفنها بيديه الطاهرتين، والحزن يملأ نفسه.
وفي معركة بدر أسر رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج ابنته ولم يكن مسلماً آنذاك، والإسلام لم يكن يحرّم زواج المسلمة من غير المسلم، وبدأ أهل الأسرى يبعثون بالمال لفداء أسراهم، فبعثت بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قلادة لها، كانت أمها خديجة أهدتها إليها.. أرسلتها إلى المسلمين لتفدي بها زوجها، ولما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمسك بالقلادة، وعرف أنها قلادة حبيبته خديجة، وضمها إلى صدره، وترقرقت دمعة في عينه التي طالما امتلأت من زوجته الحبيبة خديجة، وهو يستذكر زوجته الأثيرة الحبيبة صاحبة القلادة، ثم استأذن أصحابه الكرام في أن يعيد القلادة إلى صاحبتها فلم يعارض أحد، وأمر صهره أن يطلب من زوجته ألا تفرّط أبداً بقلادة خديجة.
فيما كانت آمال تقصّ على أمها أحسن القصص عن الزوجين العظيمين، نهضت (الأم) وعيناها مليئتان بدموع حرّى، وغادرت الحجرة وتوجهت صوب حجرتها، وأخذت تفكر:
- مالي ولكل هذا المال، وقد وهبني الله زوجاً حنوناً صالحاً، عشت معه سنين عدة، لم أر منه إلا الخلق الحسن والكلام الطيب.. ما حرمني يوماً من مال أو أي شيء أحبّه، فتح لي بيتاً وجعلني السيدة الأولى فيه، فشعرت بأني السيدة الأولى في العالم كله، ما أهانني يوماً ولا جرح شعوري ولا شعور أحد من أهلي مهما كان صغيراً.. احترم صديقاتي، وأكرمني أمام الله وأمام نفسي وأمام أولادي وأهلي، وفرض احترامي على معارفه وأهله وعلى أولادي، هذا رجل يرخص في سبيله المال وحتى النفس، تعال يا (أبا ماجد) وخذ ثروتي كلها، فمالي مالك، وأنا كلي لك يا أنا..