قصص قصيرة

ماجد سليمان

[email protected]

(1)

يَباس..

 أسند جسمه النحيل إلى جذعٍ أكله اليباس ولبسه العطش وكانت الشمس تشير إلى مقبرة المغيب بقرصها المنطفئ لحظتها.. دس في جيبه يده اليمنى التي ارتسم على ظهرها خرائط بعض الحروق التي نالت من يده وهو صغير.. أخرج منها علبة السجائر الفاخرة.. فتحها وسحب إحداهنّ وبدأ يتأملها كعاشق يغرز عينيه الشبقتين في جسد فاتنة تعبره بثقة أنثوية.. قلبها بين سبابته والوسطى.. فتح شفته الغليظة وأولج بعضها وقبض بشفتيه عليها.

 دس يده اليسرى في جيبه وأخرج ولاعة السجائر الزجاجية التي تتوسط بين اللونين الأخضر والأزرق، دعس بإبهامه على زنادها فانطلق الشرر ليكوي به ذيل سيجارته ثم غاص بجسده النحيل في ظلام الشارع مختلياً بسيجارته النتنة.

 وقع أقدامه لا يوقض إلا القلوب الحزينة، لم تحدث خطواته إلى منتزه الحيارى صوتاً يهبط في آذان الهاجعين، وحين لمست قدمه اليسرى عتبة المنتزه كان الحارس أول شخصٍ يصافح بصره المتعب، أخذ نفساً طويلاً من سيجارته حتى احترقت بالكلية ثم أدارها بين إبهامه وسبابته ثم أسلمها للإسفلت ليلحفها نعله المتنتف، وحين أخذ الدخان جولته الطبيعية في صدره نفثه في الهواء كسجينٍ أطلقوه من سنجه الطويل، فشعر بالحارس وهو يسعل بشدة وأيقن أنه فعل فعلاً مشيناً، صاح الحارس في وجهه:

- أعاقلٌ أنت.. أم مجنون؟

قبض بأسنانه على شفته السفلى خجلاً وأسفاً على فعلته الغبية وقال:

- عذراً سيدي لم أرك جيداً أنت تعرف أن هذا المكان لا يرتاده إلى أمثالي من حيارى المجتمع.

- أوووه.. حسناً حسناً فهمت أنت مسكين..  مضطهد.. قل ما تريد؟

أرعبه عبوس الحارس في وجهه فتمتم بصعوبة فبالكاد خرجت الكلمات:

- أأأرغب ارتياد البار لأنفِّس عن نفسي؟

أجابه بعد أن حملق في مظهره:

- حسناً أدخل وأياك والشغب أو الفوضى.

وحين دخل المكان سمع الحارس يشتمه بصوت خافت فقفز حاجباه وأخذ جفناه شكل الكرة وجحظت عيناي الرابضتان في حجر جمجمته،  وانفتح فمه بضع سنتمترات.

 بعد وقت ليس بالقليل خرج من بوابة المنتزة المتخدشة ككهلٍ تراكمت على ظهره السنين وجلاد فاقته يسير خلف.

محبوبته لم تزل أطيافها تدق في روحه الشفافة.. أدار محرك السيارة التي أخذها بالتقسيط واتجه إلى منزله المستأجر وهو يتمتم ويمضغ حروفاً مطلسمة.

(2)

صباح عنفواني..

 كانت الشمس تغسل رأس الرياض عن همومها أكثر من صباح عنفوانيّ.. كانت الأطياف العتيقة تعبر أزقة المدينة المملوءة بالصخب والضجر، لم يكن لحن الهدوء عازف ولم تكن تحلم هذه الرياض بيومٍ يبشرها بحدثٍ يغزل جديلتها المجعدةٍ من ضغوط الحياة المبثوثة في كل شوارعها الضيقة قبل الواسعة.

هناك حيٌّ مولودٌ في شرق هذه المدينة.. تسكنه أنوثة الفتيات الجميلات وتطوف به أحلام المراهقين المارين بأعمدة إنارته الأنيقة وتشجير شوارعه الممتدة أمام منزل إحدى الفاتنات.. في ربيعها العشرين ملامحها تشع كالبريق.. أناملها الطرية التي دائماً تشغلها بتقليم أظفارها الوردية.. تحط كحمامة على شباكها الرومانسي.. تكون المسافة بين أنفها المغري وزجاج النافذة أقل من سنتمترات، قد تشعر الزجاجة مع أنها جماد بدفء أنفاسها النائمة عليها.

 يلتحم السحاب ببعضه وهي تتأمله أمامها، يصدح مجلجلاً بصوته المخيف، تنسل سيوف البرق من أغمادها وتقسم ثوب السماء وهي تطل من شباكها و تأملها ينغرس في السماء أكثر وأكثر.

 دقائق حتى زخ المطر واستبشرت الرياض بالرواء بعد الجدب الذي يلازمها أكثر من ثلاثة أرباع السنة كما اعتاد أهلها، وانفتحت خزائن الرحمان بالرحمة.

 سحابٌ يثرثر على رأس الرياض مطراً نقياً مغيثاً بعد الله.. ما زال شباكها مسروراً بلقائها مع أنه جماد.. أرخت أهدابها لتشاهد العابرين والهاربين من المطر، وترقب الحذر الطاغي على قائدي السيارات خشية الانزلاق من اثر الماء الذي لحف الإسفلت المتصدع.

 وقفت طويلاً والهواء البارد يرتطم بشباكها الذي يشرق من خلفه وجهها.

لحظات.. نُقِرَ باب غرفتها نقرتين.. لم تلق له بالاً..

نقرتين أيضاً..

التفتت إلى بابها المزخرف ورفرفت من شفتها جملتها:

- من بالباب؟

- أنا عمتك.. أريد الدخول

- لحظات يا عمتي.. لحظات

ساوت فراشها على عجل.. أغلقت بعض أدراج تسريحتها المفتوحة ونظرت إلى شكلها في المرآة ثم نادت:

   - تفضلي يا عمتي.

تُدار يد الباب الذهبية إلى أسفل لتدخل عمتها.. ألقت نظرت عامة على الغرفة وهي تقول:

- كنت أعتقد أنكِ مكبلة بالنوم فخشيت أن تكوني قد نسيت الشباك مفتوح فتتأثري من المطر والهواء البارد.

ثم استدارت وخرجت تاركةً لانغلاق الباب صوتاً مزعجاً.

(3)

أجرة توصيل

 توقفت سيارة الأجرة أمام منزلها، انفتح الباب الخلفي الأيمن الذي تملأه الخدوش والأوساخ.. داست بحذائها البني  الوطني  الصنع الإسفلت المتكسر.. انفتحت نافذة السيارة الأمامية للراكب لتقذف على مرتبتها المتشققة أربعون ريالاً قيمة توصيلها ثم تدير للسائق ظهرها النحيل وتمضي قاصدة باب منزلها المزخرف.

فما أن اكتمل للسائق قوامها من الخلف حتى صاح بها وعيناه تلتهم جسدها المشتعل:

- خمسين ريال مدام.

توقفت ثم التفت ثلاثة أرباع الالتفات إليه وقالت بصوت تبلله الأنوثة:

- هذه المسافة أدفع دائماً عليها أربعون ريالاً..

وغمزت بسهمٍ من عينها الكحيلة الناعسة فانفتح فمه حتى دقت عظام فكيه إلى أن أولجت المفتاح في قلب الباب ودخلت كغانية ترتدي كامل ثقتها بجمالها.

أدار السائق وجهه القبيح إلى الأمام وانطلق بقوة تاركاً الغبار والحصى يتطاير خلفه.