عند الحاجز
حسين راتب أبو نبعة
جامعة الملك عبد العزيز
كلية المعلمين بمحافظة جدة
كان صباحا عاديا.....دبيب السيارات التي تحمل جماعات الموظفين معلنة ميلاد فجر جديد إلى جوف المدينة وأصوات المطربين تنطلق من مسجلات تلك السيارات , وأشعة الشمس تتسلل برتابة لتبدد خيوط العتمة المتبقية كأنها تبعث برسالة مطمئنة معلنة ميلاد يوم جديد.كانوا خمسة ركاب :تاجر وكهربائي وموظف بقسم الأشعة في إحدى مشافي المدينة العتيقة وأستاذ شاعر وولده الفتى, اقتربوا من مدخل المدينة.كل شيء هادئ إلا أن مسحة حزن كانت تغلف المدينة و تتسكع في طرقاتها تلفع أحياءها المترامية هنا و هناك.
أوقف السائق جهاز التسجيل فجاءة دون سابق إنذار...ساد صمت
- لعنهم الله, قال السائق بتأفف , فكل يوم يقيمون حواجز إضافية...و يشير إلى لوحة قف مكتوبة بالعربية والعبرية والانجليزية, توقف على ميمنة الشارع بانتظار قدوم احد جنود الدورية, لم يجد الأستاذ الشاعر يبعث على الطمأنينة سوى أبيات من الشعر بدأ يدندن بها حتى يقتل لحظات الانتظار...
"أحسست بالإذلال
في بلادنا العزيزة
و ناقتي الحرباء
أنهكها التعب
لا أملك المكوس للعبور.."(1)
أما التاجر فقد كان فاغرا فاه كأنه أصيب بحالة هلع,أما الكهربائي فكان يهمهم كأنه قطة محشورة في زاوية تساوى عندها الموت والحياة.أما موظف الأشعة فقد كان رابط الجأش – لا داعي للقلق..فكل يوم أشهد مثل هذه الحواجز الطيارة..همس الموظف يتبعون هذا الأسلوب بهدف مفاجأة المطاردين والمطلوبين
...يشير أحد جنود يهود الفلاشاl بسبابته آمرا السائق بالتقدم قليلا..يتقدم السائق - على مضض- رغم معرفته و تعوده على طقوس مسلسل الحواجز والاستفزازات...لم يكن ثمة شيء يبعث على الابتسام..ها هو الجندي يتقدم مدججا بسلاحه
- انزلوا جميعا ..قالها بلكنة غريبة ركيكة, تأمل في هوياتهم و دقق في قائمة لديه من المطلوبين..لم يعثر على ضالته ,انتابته رغبة في إذلالهم تمثلت في تجاعيد ارتسمت على قسمات وجهه
- توقفوا عند هذا الجدار..أديروا ظهوركم وارفعوا أيديكم إلى أعلى...أنت هناك..قف على رجل واحده !وأشار إلى الأستاذ...انصاع الأستاذ بداية..اجتاحه غضب عارم ...رواح منبعثة من قمامة ملقاة عند السور تزكم أنفه , مشهد مؤلم من مشاهد مسرح العبث يتراءى أمام الشاعر..كان يرى نفسه في قاموس الاحتلال مجرد صعلوك في أطراف الصحراء خاصة وأن مدينته تتسربل في أغلالها و تختنق عند مداخلها ومخارجها.طال الانتظار موعد المحاضرة الأولى يقترب, يستدير الشاعر مخاطبا أقرب الجنود ليستأذنه في إنزال رجله اليسرى على الأرض حيث أنه يعاني من الروماتيزم
- أنا أستاذ بجامعة المدينة و...
- ماذا ؟ أستاذ...قهقه الجندي وانتابته نوبة ضحك شديدة حتى بانت نواجذه,ماذا يعني ذلك..أنت عندي لا شيء..و هذه دواوينك هراء أو قل ثرثرة!ثم أمسك الجندي حقيبته و فتشها بدقة..نبش محتوياتها وألقى ما في جوفها من كراسات و دواوين على الأرض....صرخ الشاعر صرخة المذبوح كأن أحدا ذبحه من الوريد إلى الوريد...نظر إلى يمينه فارتد بصره عن ابنه الفتى الذي كان يحدق به مستهجنا ما يجري...كأنه كان يحمل صورة البطل لكنه يتجرع الهزيمة.....شعر بقشعريرة ورعشات امتدت إلى دماغه....كانت نظرات الفتى أقسى من اهانات الجندي و عباراته..انتابته أحزان أسد جريح قلعت أنيابه...دمعتان ة ساخنتان تفران من عينيه..تتعلقان بين جفونه بشيء من الجهد...تتهاوى الكبرياء...يتحول القهر الى صخره تنبجس منها عيون الغضب..أصبح كصقر جارح يكاد أن ينقض على فريسته..أصبح حزنه بحجم الوطن يئن تحته جسمه النحيل...رفع الشاعر رأسه عاليا وأشهر إصبعه نحو الجندي كأنه سيف بتار كأنه يهم بإعطائه محاضرة في أدب التعامل, انتصب شامخا كطائر اللقلق على ساقين ثابتتين... يدفعه الجندي..يسقط الشاعر ثم ينهض من جديد مخاطبا إياه بحدة" أيها الجندي..ألقيت بدواويني أرضا و صادرت ترابي و شوهت تراثي و أردتني أن أقف على ساق واحدة بلا ذنب ارتكبت أو جريرة اقترفت....يجب أن تعرف أننا لن نموت...قد ننحني كالسنابل و لكن لن نموت ما دامت أرضنا معطاءة....."
يضع الشاعر أوراقه وكتبه في حقيبته على عجل و رمى بجسده النحيل في الكرسي الخلفي...يصل محاضرته متأخرا نصف ساعة....يتدافع الطلاب.... يتساءلون عن صحته والسبب وراء تأخره سيما وانه عرف عنه دقة المواعيد دلف بهدوء إلى قاعة المحاضرات .....
ينظر إليهم من وراء نظارته, يتأمل قلقهم, يبدأ محاضرته قائلا"لا عليكم...أخرتني نقطة تفتيش , سنبقى نطير بلا أجنحة نحلق ي سماء رحبة الآفاق...و كما أكدت لكم بالأمس في أتون القهر تختمر معاني الحرية و من العتمة ينبلج فجركم أيها الشباب..ستنهضون من رماد الكبت و الاحتراق...ابقوا على شمعة الوطن متقدة رغم عواصف الاحتلال و أنوائه..."
بعد شهرين من الحادثة تداولت المدينة نبأ وفاة شاعر في قاعة درس بين طلاب أحبهم وأحبوه...لم تتناقل وكالات الانباء الخبر من بعيد أو قريب...ربما لأنه لم يمت اذ ما زالت دواوينه تنبض بالحياة و تبعث الدفء في شرايين الوطن.
1- الأبيات لشاعر ليبي