القطة والرجال

سميح الجعبري - القدس الشريف

[email protected]

أعرف ستةً من عشرة القطط الذين تحلّقوا يراودوها عن نفسها. فاتكأت على ( درابزين) الدرج الواصل بين بيتي وبيت الحاجة أطال الله بقاءها، ووقفت أراقبهم بعد يأسي في المحاولة الثالثة في إبعادهم عن مدخل بيت العجوز القاطنة في الطابق الأرضي لمنزل ولد قبل الاحتلال، ودرجه... خارجي.

عشرة رجال وقطة رسموا مشهد قصة تدور أحداثها في حفلة رأس السنة... ولك أن تتخيّل المكان...

أما هنا، فأنا ما أزال أسمع صرخات التحذير المرحّبة بجميعهم، والمسرح الباحة الأمامية الزاخرة بالتحف الأثرية لسبعينية يثور من ثيابها طحين حرب عالمية، وليس أقل نوادرها العلب المعدنية التي يغلّفها القرنفل البلدي المهدد الآن بأقدام الغزاة الشّبقين.

أما بطلتنا، فتمنّعت في مأمن عن نزواتهم، فاصطفّوا وتمترسوا حول الفرن الحديدي القديم، يرقبون كل نفس يثور بخاراً من لدن فروة الشهوة البيضاء، فكل لفتة منها كانت تطيح بقلوب الأبيض والأحمر والأشقر والأسود، تناثروا كحبات الحديد حول المغناطيس. ولم يبقى من غرائزهم سوى واحدة.

ثلاثة أخوة من الذين ولدوا في مخزننا القديم كانوا أول من بادر... فالموسيقى تهز الكؤوس على الطاولة، والكل منتشٍ، وفي مناسبة كهذه، يقترب الرجال من بعضهم أكثر من الحد المتعارف عليه، ليس بالمعنى السيئ طبعاً...!

فوقف ثلاثتهم يحاولون كسب ودّها فرادى وأزواجاً، يتفقون على اختلافهم، محترمين أحاديث دارت بينهم سلفت هذه الحفلة، فعلى الأقل، إن فشل منهم اثنان فالثالث ما زال فرداً من المجموعة.

وبعد وقت قصير، كان الثلاثة في طريقهم للبحث عن حفل آخر.

ما زال الفرن المعدني تحت حصار جيش من الفحول، في سكرات موت هذا الشباط، وقد بدى على أبدانهم وهن موسم آخر. وطول البال ؟! هذا موضوع آخر... فالعدد يزداد تارة وينقص تارة أخرى، بعضهم يتجول في الجوار أملاً في فرصة أفضل، والبعض فضّل الفروة البيضاء رغم شدة المنافسة.

لعلي أتساءل : هل هم يفضلون القطة البيضاء أيضا ؟

على كل حال، هي تعلم أن ارتفاع الطلب يرافقه ارتفاع في الثمن، وكثرة البضاعة تحتاج وقتاً أطول لاختيار الأفضل. لكن ماذا يفعل من هو أقل حظاً ؟

ربما لا يعلم الكثير منا أنه لدى الإناث والذكور على حد سواء، هناك ما يشبه علاقة تكافلية : فعادة ما نشاهد فتاة جميلة برفقة أخريات أبسط جمالاً، كما هو الحال فيما بين الرجال. لماذا ؟؟

الجميلة تستفيد ممن حولها لتتمايز، فتقل منافساتها، وبالتالي يكون لها الأولوية في الاختيار، بينما تستغل بقيتهن انجذاب أكثر من رجل نحو الحسناء، فتزيد فرصهن في الحصول على أحدهم. والحال بالنسبة للرجال سواء. والمشكلة هنا أنها واحدة ولكنهم كثر... فاضطر أقواهم إلى طرد رفقته فالموقف لا يحتاج إلى مزيد من المنغّصات.

مضى وقت وما زالوا يتناقصون، فهي لم ترمِ منديلها لأحد بعد، وما زال هناك من لم يجرب حظه، فكانت الابتسامات تُوزع يمنة ويسرة، في سمرة الليل، والندى يعرّق الكؤوس على الشرفة المطلة على الحديقة.

تعب البعض، فلعبة عض الأصابع لا بد لها من نهاية، كيف لا ! والملل سبب كافٍ للانسحاب... وعلى كل وجه، من بقي... بقي عن استحقاق، ولا ضير في تراجع مشرّف قبل الصّد، ولربما في النهاية، تكون حظوظهم أفضل.

فبقيت هي وهما...

على طرف الحوض، كان يهز ذيله كالبندول، مترقبٌ وصبورٌ، لعله اختار الموقع الأبعد ليرى صورة أكبر عما يجري حول الفرن المعدني!

يتكئ على حوض النعنع اليابس، وليس بعيداً عن بيت الدرج، المزيّن بالقرنفل البلدي!!! اتكأ العجوز الذي خطّت السنون على فروة رأسه خفيفة الشًّعر تقويماً للمعارك التي خاضها في سنين حياته. يقابله فتيّ في أخضر شبابه، يذكّره بنفسه عندما كانت تبرز عضلاته في كل مرة كان يتفتّل أمامها، محاولاً إبداء جودة أصله.

دخلت البيت مرتين وعدّت أراقب، والمشهد هو هو، وكأنه رقصة تانغو لثلاثة...

ولولا أن نزل علي غضب أوامر صاحبة القرنفل البلدي بطرد العشاق، لبقيت على الدرج أسمع حديثهم، لكني نزلت إليهم بسرعة، فما كان من الفتيّ إلا أن قفز بكل قوته كالسهم إلى فوق الحائط، وأما العجوز فبقي تحت أسفل الدرج حيث كان ملجأها الآمن.

لعله كان الحظ، ولعل الشاب كان كاملاً، يلوّن غرف المراهقات باللون الوردي في حلم متعرّق الصدر، ولكن العجوز كان قد تعلّم بأن الشعور بالأمن هو أصل المشاعر كلها، فهو لا يشعر بالرغبة أو الجوع أو العطش... إن كان خائفاً. فاختار منذ البداية أن يكون آمناً أولاً ليستمتع ببقية الأمسية. وفي لحظة الحقيقة، هو لن يستطيع القفز عالياً... ولكن بعض الثمار تكون أقرب من أن تقفز إليها.

في الواقع...

كان هناك واحد نسيت ذكره، ليس بذنبي !!!

ولكنه لم يحرك ساكناً من أول السهرة وحتى نشوة النهاية.