انخرس الهاتف
انخرس الهاتف
المأمون حسان
ذلك الهاتف العجيب الذي كان مزعجا حد الابتذال لم يعد يرن ...تلك المكالمات الساخنة التي كانت تأتيك من كل حدب و صوب لم يعد لها أي أثر ...أولئك المتملقون و التافهون الذين كانوا يحرصون على تقديم فروض الطاعة و الولاء بمناسبة و بغيرها ، صاموا عن مكالمتك ، جميعهم تركوك وحيدا في " عزلة المائة يوم " ، لم يعودوا بحاجة إلى مهاتفتك و إخبارك بالتافه و المهم أملا في كسب عطفك و رضاك ...حتى من كنت تظنهم أحبة قاطعوك و تركوك تائها في بيداء من اللانهائي ...
أ هكذا تكون نهاية المشوار ؟ أ هذا هو المعنى الحقيقي للآخرين ؟ الفائت كله كان زيفا و سرابا أخاذا ؟ فحتى عهد قريب لك لم يكن بمقدورك تناول الطعام دون أن تزعجك مكالمة هاتفة من ذاك الهناك ، و لكن ها أنت اليوم تستطيع أن تتعرف على ما يرقد في أحشاء الهاتف النقال من برامج و ألعاب ، دون أن تتلقى اتصالا واحدا، لكن لا يهم إنه درس آخر من دروس زمن الرداءة و العفن يفترض فيك أن تلتقطه على وجه الدقة و السرعة معا ...
الهاتف يرن مجددا ، بات مزعجا للغاية هذه المرة ، لقد تناهى إلى علمهم أنك عائد إلى عهد البائد لا محالة ، جميعهم يخطبون ودك ، يكذبون و يقولون بأن الزمن هو ما منعهم من الاتصال بك في الأيام الماضية ، غنهم يتضامنون معك تضامنا لامشروطا ،و يعتبرونك نبيهم و مرشدهم البهي نحو الخلاص ، لم يعد لك الوقت من جديدا للعب بهاتفك ، لن تستطيع تناول الطعام من غير رنينه المزعج ، تغير الرقم الهاتفي ، لكنهم يصلون إليه ، عبثا تحاول التخلص من ظلهم الثقيل ، هاهم مرة أخرى يحاصرون لحظاتك الجديدة و يعلنون الانتماء لصلاتك ، فأنت الخلاص و المنتهى ...
***
مرة أخرى ينخرس الهاتف ، لأنك عدت من حيث أتيت ، لم تعد نبيا و لا خلاصا لأحد ، العزلة تطوقك من جديد ، الطقس البارد يهاجم مساءاتك القادمة ، المعنى الهارب منك دوما يفر منك نحو مغاليق الليل الحالك ، تلعن اللحظة التي قررت فيها الانضمام إلى عالم تكنولوجيا الاتصال ، تهرب من عالم الزيف إلى البحر رفيقك الذي لم يخذلك قط ، تتأمل أمواجه و صخوره ، تهديه هاتفك النقال و تنتهي من الألم الذي يجلبه لك ... تتساءل و الزهو يملأ صدرك ، أليس في المقدور التحرر من سلطة الهاتف ؟ ألا يمكن العيش بلا هاتف ؟
***
تذهب إلى عالمك الافتراضي على شبكة الانترنيت ، فتجد علبة الرسائل ملأى عن آخرها برسائلهم المداهنة ..إنهم يجتاحون صمتك و انهيارك و تألقك و بهاءك ...لن يتركوك وحيدا ما دامت صناعة الحياة هي قدرك الوحيد ، فاحذرهم قبل أن ينخرس هاتفك ؟
ألم ينخرس الهاتف بعد ؟...بعد زوال قليل من النعمة سنخرس حتما ...