بقعة بيضاء في الذاكرة

بقعة بيضاء في الذاكرة

مرهف مينو / كاتب سوري

[email protected]

لا أحب سرد أجزاء من حياتي .. أهمل كل قصص السير الشخصية , أضع الروايات ومذكرات الكبار في رف مكتبتي الأسفل ..

بعضهم قال عندما تكتب من تعرف فأنت تقتله , لن أقتلك , كتبتك كي احتفظ بالرائحة التي أحببتها فيَّ .

كتبتك لآخر مرة .

حمل ثقيل , غصة قلب , وضباب دمع , مرارة سؤال .... : كيف أصبحت دون أن ادري أمي ؟

* * * * *

 تلاحقني دائما بالأطعمة التي انتهت من تحضيرها الآن في المطبخ ..

نذرت حياتها للتعب والقهر .... وحيدة .

تعصب رأسها فوق شالها الأبيض الذي يشبه " غطاء الصلاة " بمنديل حريري كان فيما مضى غطاء رأس ثم حولته لـ " بقجة " إلى أن انتهى عصبة لرأس يتألم ..

في صدرها الكبير دائما مصحفا صغيرا , لا تحب الأحجبة , وقرش اصفر ... لي ..

ضبطتها مرة , تبحث في ملابسي , تقربها من انفها , تشمها , تشتم قميصي الأزرق من الصدر بشغف عاشقة , تغمض عينيها على أحلامها .... التي لا يعرفها الا هي ..

اكتشفت بعد غربتي عن وطني ان للأمهات مقاييس خاصة في الحب , تلك العجوز الطيبة لم تترك فراغا الا ملئته .

اكتشفت لما لم تبكي ابي بموته , مزيج الفرح والحزن والقسوة واللين والطلاقة ذاك , ككل امهاتنا , فلاسفة بدون نظريات وكتب يستطعن رؤية الجمال اينما كان بتعقيده وبساطته , يرتجفن منه , يحسونه , يأكلون منه .... بتلقائية .

قداسة تضمها هي وفنجان قهوتها وسيجارتها اليومية الوحيدة , تشربها ... تستغفر بعدها الله مئة مرة , وحيدة كانت كمريم , تهز نخلتها ..... الخاصة .

هدوء لم استطع فهمه الا في الأربعين , تودعني جالسة على " الدفة " وسط أكوام الغسيل الأبيض ... برميل " الغلي " الفضي وبابور الكاز طقسها الصباحي المعتاد ..

تناديني لأساعدها في حمل البرميل للسطح , تقترب من السرير , أراها من تحت الأغطية قادمة مياه الغلي تقطر من ساعديها وبقعتان من رغوة الصابون على ملابسها , تسبقها رائحة النظافة والمساحيق المبيضة :

- عبد الله .... عبد الله , طلعت الشمس ..

طلعت الشمس , عبارتها تختلط بروائحها ومساحيقها وصوت الراديو الصغير الذي تصر انه لها ..

" طلعت الشمس , غابت الشمس " نهارها هي يقبع بين تلك العبارتين , انا وسجادة الصلاة وسيجارة – الحمراء -  وبعض من تزورهم او يزورونها من أصدقاء .

يتابع الصوت :

-   بس  تعال ساعدني على الدرج .

اتأفأف منها , ألف نفسي بأغطيتي مخفيا وجهي ويدي تبحث عن النظارات على الرف بجانب التلفزيون .

تتركني معلنة إفلاسها بكلمة : الله يهديك , اسمع طرقات البرميل على الدرج ولهاثها , انفض ما تبقى مني بين الأغطية مسرعا إليها بخطوتين كبيرتين أمد راسي بين يدها والبرميل..

تضحك , احمله واجري به للأعلى ..

- الله يرضى عليك  ... نمر .

أحببت اتساعها , قلة خيبتها , فرحها الدائم , يتمها , عرسها المستمر يوميا في البيت  .

كانت تجد الوقت دائما لتكلمني عن فرن التنور وزريبة الجمال وعمها " كرمو " أنيس يتمها ..

تعبق من حكاياتها رائحة القرفة واللوز البلدي .

كانت ملجأي من خدوش طفولتي السعيدة , من مشاكلي الكبيرة الصغيرة , زلات لساني , منقذي الوحيد من رائحة الدخان المعشش في ملابسي عند لهونا " بخرابة " الحي ..

احترفت صمت يتمها ... إلا معي , أنا كبرت هي ازدادت اتساعا حتى وطئتني , مازلت صاحب الراس الصغير والنظارات الكبيرة ..

شهدت شغفي , وهواتفي الليلية , رتبت أوراقي , لملمت الواني وفرشي , راقبت لوحاتي ... بصمت يعجز عنه حجر .

تأتيني بعد ان أنام , تهزني , تسألني : تتعشا ؟.

تضيف بعد ان تسألني أين كنت :

-  تعال .... اشرب معي قهوة .

بعد انتقالنا لبيت أحلامها الجديد لم تعد تردد جملتها " طلعت الشمس " , لم تعد تنام في غرفتها , استوطنت شرفة البيت هي ومسبحتها الزرقاء الطويلة وسجادة الصلاة ..

اشترطت ان يكون البيت جديدا :

- الصحة يا عبد معد تساعد , شفلي بيت جديد وصغير .

تستدرك :

- ويكون قريب من أمي ....

تستدرك :

- وسيدي خالد ....  والبرندا واسعة .

كانت " البرندا "  كما يحلو لها ان تسميها مخدعها السري تقيل فيها بعد العصر , تستقبل أصدقاءها , صومعتها الأقرب الى الله  .

حتى ان شهور العدة قضتها فيها حزنا على رفيقها – أبي – هي ومسبحتها , تك , تك , تك .... تدعوا بهمس وتصلي بهمس ..

- الساعة هلق أربعة الفجر !.... نامي ..

- لا ... تعال , اشتقتلك .

ينهض الطفل داخلي قبلي , قافزا , بخطوة تكون القهوة جاهزة ..

اجلس متربعا إمامها , عاريا بقميصي الداخلي , أعطيها علبة سجائرها الوطنية وولاعة " الرونسون " إرئها الوحيد من أبي .

تكلمني بصيغة السؤال والعتب :

- اتصلت فيك اليوم هاي البنت الشقرا ؟... والله صرت اخجل منها , بدك تعلمني الكذب بعد ها لعمر ... شو اسمها .

لا تنتظر إجابتي تجيب هي :

- نانا ؟ لانا ؟ .... المهم البنت كلها أدب ما بتقلي الا يا حجة .....؟ لك عيب عليك هدول بنات ناس ..

اضحك , تضيف :

- والله مابحط ايدي بجوازتك ابدا ..

تفهم تناقضي ... ارتمي عليها عابثا بغطاء الصلاة متناسيا أني كبرت بغفلة مني ..

تشعل سيجارتها .

يتوقف القلب , وتعود الذاكرة , تتأرجح هي فقط بين طيات الذكريات , يتعثر اللسان معها , يتعثر عند وصفها ... اشتقتها ..

" هي " وتلك النبته الغريبة فوق قبرها والتي لاتزال رغم قسوة فصول المدينة تدهش قلبي بأحمرها الجذاب وأخضرها المدهش .

رغم كل السنوات الكسيحة والأحلام الهاربة , التي تمر ... تصر دوما على الظهور فجرا كل يوم مع أول خيط نور لتقول لي :

-  عبد .... قوم , طلعت الشمس .

·  سيدي خالد : مسجد الصحابي خالد بن الوليد .

· البرندا : شرفة المنزل .