الدرجيحة

صالح سعد يونس /ليبيا

[email protected]

(1)

- كن حذراً.. إربطه جيداً.

كنت قلقاً على أخى خشية سقوطه عن الجذع.. متلهفاً كذلك لصعود الـ((درجيحة)).

بصعوبةٍ تمكنّا من العثور على أسلاكٍ تكفى لصنع درجيحة  متينةٍ.. حتى أننا اضطررنا للسطو على مخزن التبن وإتلاف عدد من الـ((بالات)).

وضعت فوق السلك المعدنى المكون من مجموعة أسلاكٍ مترابطةٍ قطعة كارتون لكنها لم تحل بينه وبين حز مؤخرتى.. فربطت فوقها قطعةً أخرى ثم عززتها بنطعٍ قديمٍ كانت جدتى قد رمته بعد أن نتف معظم صوفه.

بفرح الأشقياء جلست منتظراً عودة شقيقى الذى ذهب لإغلاق ((براكة)) التبن.. فيما نهضت إلى يمينى بريعماتٌ خضراء لخضرواتٍ مختلفةٍ فى السانية الصغيرة المحاطة بسياجٍ مهترىءٍ.

أصر أخى ((عبد الله)) على أن يكون هو البادىء.. قلت

محتالاً:

- أنا صاحب الفكرة.

- وأنا من جمع الأسلاك وربطها.. أنت لم تفعل شيئاً غير أن تحرث علىْ.

- ستكون لك البداية.. لكن دعنى أجربها أولاً.

- ...................................!.

إتسعت حدقتاه لهفةً مشوبةً بقلقٍ وريبةٍ.. أردفت:

- السقوط من على الدرجيحة أمرٌ خطيرٌ.. إنه أكثر إيلاماً من صعقة سلك النور.. بل هو أشد وجعاً من الوقوع من فوق ظهر الجحش.

- ..................................!!.

(2)

كان الفصل ربيعاً.. وكنا عائديْن من المدرسة حين رأينا حمارةً رماديةً يتبعها جحشٌ أشهبٌ.. إمتطيت ظهر الأتان فى حين وبصعوبةٍ بالغةٍ تمكن شقيقى من ركوب البغل.

كانت الحمارة تسير بهدوءٍ فقد أدمنت الركوب من كل الصبيان..!.. بينما تمرد الجحش فأوقع أخى على الأرض

حتى سالت دماؤه.. منذ ذلك اليوم ابتعدنا عن ركوب الحمير.. وطفقنا نركب ظهور الماعز ..!.

(3)

تراجعت نظرات عبد الله.. تقهقر للوراء.. سوّيت جلستى وشددت قبضتىّ على السلك فيما قام هو بدفعى من الخلف.

بدأت أرتفع إلى الأمام.. ثم أتراجع للوراء.. أنخفض.. ثم أعلو مرتداً إلى الخلف.. بعدها أنخفض إلى الأمام.. وأرتفع.. وأتراجع.. والنشوة تملأ قلبى الذى تسارعت خفقاته بينما يتناثر شعرى ويتموج.. والريح تداعب وجهى .. وصراخ شقيقى وهو يطالب بدوره يصفع أذنىّ.. لكننى أغلقت جفونى وحلّقت مع فرحتى الصغيرة صحبة النسيم العابق بعبير الخضروات الطازجة.

أخذت الحركة تتباطأ.. فجأةً هوت على ظهرى ضربةٌ مؤلمةٌ.. إمتلأت مقلتاى بدموعٍ غزيرةٍ.. وبحنقٍ امتدت يداى تلتقطان الأحجار وترميان أخى الذى كان يمسك بعصاً يابسةً ويصرخ بملء فمه. 

بعد لحظاتٍ جفت الدموع.. قبّلته ودفعته نحو الدرجيحة.. بدأ يرتفع رويداً وأنا أدفعه.. توقف نشيجه.. ويبدو أنه بلغ مبلغ النشوة فارتد رأسه للوراء وتصلبت يداه حول السلك.. فيما

تناثرت حبيبات الدموع وانزلقت بقاياها على زاويتىْ عينيه لتطير مع الهواء .

إزدادت سرعة ارتفاع الدرجيحة واندفاعها فسقط.. مجدداً تدحرج من حلقه الصراخ وتقاطرت من عينيه الدموع.. هرولت مبتعداً ووجه أبى يطاردنى وهو يشهر فى وجهى إصبعه الضخم:

- ملعون سماطير بوه.. الخباثة كلها منك.