نهاية أستاذ فاضل
من أدب الاحتلال
نهاية أستاذ فاضل
(قصة مستوحاة من الواقع العراقي)
حامد نصار
بدأت القضية عندما دخل طالب في الرابع الثانوي الى الصف متأخراً؛ محاولاً تجاهل ذلك التربوي الذي تجاوز العقد الخامس من العمر، وربت خدمته على أربع وعشرين سنة.
كان ذلك الصبي مُحمّلاً بأفكار طائفيةٍ سوداء؛ تلقاها من محيطه في منطقة شعبية معدمة يُنفق الناسُ فيها أموالهم على خرافات، ويقدمون جزءاً منها لمخادعين يدعون أنهم مباركون، ولم يفكروا يوماً في تطوير أنفسهم والتحرر من تلك الأفكار المتعفنة لأنها في اعتقادهم مقدسة لا يمكن بأية حال من الأحوال تجاوزها أو الخروج عنها.
ترك المدرسُ الطالبَ يخطو بضعة خطوات الى داخل الصف ، بعدها استوقفه - بطريقة توحي بخبرة طويلة في التعامل مع الطلبة – فسأله عن سبب تأخره وعن الخرقة السوداء التي لف بها أعلى رأسه. فأجاب الطالب بنبرة حادة: كنت في الواجب.
لم تكن في إجابته كلمة أستاذ!.
أردف المدرس مستغرباً وفي عينيه ترقب وقلق يظهر جليّاً من خلف نظارته الطبية السميكة: أي واجب؟
رد الطالب: في "جيش الإمام".
عندها أطرق ذلك المربي الفاضل، الذي تلقى آلاف الإجابات الصحيحة والخاطئة في أثناء مسيرته التربوية، وسمع آلاف الأعذار الصادقة والكاذبة، وربما تجاوز عليه بعض الطلبة نتيجة حدة مراهقة، أو سوء تربية ،أو أسباب نفسية واجتماعية ؛ كان يعالجها بحرص وإصرار على تصحيح مسار الإنسان ( الأمانة) الذي أرسله أهله لتلقي التربية والتعليم.
ما كان كل ذلك ليهدَّ كيانه ويثير في نفسه ما أثاره ذلك الردّ الذي كاد أن يفقده أمله. لكنه استجمع ما تبقى من قواه المنهارة؛ ليشحن بها روحه التربوية الأبوية العريقة، منازعاً الأحداث ليكمل مسيرته.
أمسك التربويُّ الفاضلُ الطالبَ من طرفِ قميصه قائلاً له: ابني أنت طالب، ويجب عليك الالتزام بالدرس والاّ فلن تنجح عندي. ابني هذا مستقبلك لا تضيعه.
خرج الطالب غاضباً وهو يردد بعض الكلمات بصوت منخفض.
في فجر اليوم التالي استيقظ ذلك التربوي المنهك؛ ليؤدي فريضته، ثم تلا ما يسّرَ اللهُ له من القرآن. وحسب جدوله الذي اعتاد عليه تناول إفطاره ولبس بدلته وجهز أوراقه مبكراً، ثم خرج من بيته متجهاً صوبَ مدرسته في نهاية الحي؛ ليستنشق هواء الأزقة وشوارع ما كان يستطيع تصور أيامه دون أن يمر بها، وأن يلقي التحية على من يمر بهم.
كان الأستاذ الفاضل يحرص على أن يكون أول الداخلين الى المدرسة.فيفتح نوافذ الإدارة ويمسح الغبار عن مكتبه ليضع أوراقه، ثم يذهب الى ساحة المدرسة وصفوفها في جولة يومية مبكرة، وربما أيقظ الحارس.
إنه يحفظ تفاصيل هذه البناية بدقة عجيبة، ويعرف عدد زجاجات النوافذ المكسورة، والرحلات المتضررة، ويتابع الكتابات التي على الجدران ويحاسب عليها ، فالالتزام بالنظام والأخلاق المتعارف عليها جزء من كيانه الإنساني.
هذا الإنسان يحمل أسراراً وذكرياتٍ كثيرةً عن هذه المساحة من الأرض.
قبل الثامنة اجتمع المدرسون في غرفتهم وتبادلوا تحية الجلوس(صبحكم الله بالخير). وما لبثت الجلسة أن تحولت إلى منتدى سياسي يُطرح ويُحلل فيه ما تناقلته وسائل الإعلام في اليوم السابق.
وفي زاوية من زوايا الغرفة وسط زحام الكلمات همس أحدهم في أذن الأستاذ الفاضل: أستاذ أريد أن أكلمك في موضوع مهم بعد نهاية الدرس الأول.
وفي أثناء الاستراحة انفرد(الزميلان) في حديقة المدرسة الأمامية.
أستاذ يقولون إن لديك مشاكل مع "جيش المهدي"، أستاذ احذر فقد يقتلوك، لا تقل لي : المبادئ والقيم، حافظ على حياتك أستاذ ....
يوم أمس حاول الأستاذ الفاضل أن لا يدع ما وصلت إليه العملية التربوية من تردٍّ أن يؤثر على عزيمته؛ لكن الصدمة اليوم أشدّ، فلم يعد بإمكانه استيعاب ما حصل.
ألقى نظرة أخيرة على باحة المدرسة، ما كان في حسابه أن ستكون النظرة الأخيرة هكذا.
بعد يومين فقط من جلوسه في بيته تعب تعباً شديداً، إذ أنه لم يكن يحتمل العطل الرسمية، فكيف سيحتمل هذا المكوث الطويل.
زوجته تحثه على الرحيل من المنطقة . لكن... كيف؟.
عشت هنا منذ عشرات السنين، لا أستطيع أن أتنفس غير هذا الهواء. لا لا لا ....
ذات ليلة ، ضُرب باب بيته بقوة ... ارفع يدك .... وجهك إلى الجدار ...لا أحد يتحرك...تعال َ ... مجرم ... إرهابي... اركب...
الله أكبر ... أتركوه ... أبي .... يا ناس .... أنجدونا....
مشاهدينا إليكم نشرة أخبار التاسعة :
عُثر صباح اليوم على جثة المدرس(.....) ملقاة على جانب الطريق وعليها آثار تعذيب؛ وذلك بعد اختطافه من قبل "عناصر ترتدي زي مغاوير الداخلية".