بُعْدُ الْحَقيقَةِ
نعمان إسماعيل عبد القادر
[email protected]
رغبةً في الوفاء.. ورغبةً في الانتقام من الظلم الصاعد.. ورغبةً في
التحدّي.. ورغبةً في كشف الحقائق
على
ملأ من الناس.. ما عاد للخوف مكان في قلبه منذ أن عاد إلى قريته يحمل جواز سفر
كنديٍّ.. أراد أن يكون سفره إلى حيث لا يعرف إلا ما رسمته له مخيلته ما
استطاعت أن ترسم من صور وأماكن وأحداث. صحيح أنه لم يعرف منها عن مدينتها إلا بعضًا
من المعلومات الضيقة، لكنه يعرف الكثير عن عالمها الكبير الذي أحاطت به الدوائر من
كل جانب. اسمها- "هدى".. من قلعة السراغنة في المغرب.. كانت تسكن مع والدها في حي
البرج، شارع الجمّالين رقم 33.. تعرّف عليها من مدرسة أطلق عليها اسم مدرسة
الصدفة. عبر خيوط الشبكة العنكبوتية اندفعا يتسامران. اثنان لا ثالث لهما إلا الله.
همومهما عُرضت وتحولت إلى كلمات تراقصت حروفها على شاشات الحواسيب. هي أسرار
انتشلها كل منهما من أعماق بئره المظلم. وقرأ كل منهما ماضي الآخر.. وكان يحمل بين
طياته أشياء وأشياء. ظلّت تشكو له ما أصابها من ظلم الناس لها، وظلّ يبعث فيها
الأمل تلو الأمل. لا يزال يذكر آخر كلماتها المودّعة التي انقطع شلالها من يومين-
"لن أسامح مغتصبي يا "خالد".. لكنني سأموت وأنا سعيدة.. نعم أنا سعيدة منك وبك..
أنت امتداد لروحي وكياني. كنت تشعرني أنك رفيق دربي رغم المسافات التي بيننا. أرجوك
أن تسامحني؛ لأني أزعجتك بأخباري وشكوت لك بثي وهمي. لم يكن لي أحد غيرك في هذه
الدنيا لأفرغ له ما يحمله قلبي من أثقال. سنلتقي في الآخرة بإذن الله تعالى. طلب
خاص أرجو أن تنفذه لي إن استطعت! إذا تزوجتَ وأنجبتَ بنتًا أن تدعوها "هدى" حتى
تكون هدايةً لك في حياتك.. وها أنا ذا الآن أودعك قبل يوم واحد من رحيلي.. و إلى اللقاء والسلام... هدى
لم
يستطع ليلتها النعاسُ أن يأخذ مجراه في عينيه.. كيف ينام وأفكاره اختلطت أوراقها
ولم يستطع أن يرتبها.. أي رسائل هذه التي وصلته في الآونة الأخيرة! أهي كلمات
مفبركة أم أفكار زائفة؟ أيعقل أن تموت قبل أن يراها أم أنها تتهرب منه؟ ولكن لماذا
تتهرب من إنسان تفصل بينها وبينه مياه بحر المتوسط؟ هو في قارة، وهي في قارة أخرى!
هو في فلسطين، وهي في المغرب! بإمكانها أن تلفظه من مكنونات بريدها بكل بساطة.. حين
تذكّرَ أنها سجّلتْ ذاتَ مرةٍ في إحدى رسائِلها رقمَ هاتفها المحمول،لم يتوانَ
لحظةً فقفز من فراشه وشرع يتصفّح رسائلها القديمة المكنوزة بين طيات بريده
الالكتروني. توقّف عند صورتها ونظر إليها بإمعانٍ جليٍّ ودقّق في وجهها الجميل
المشرق.. أيعقل أن تذبل هذه الوردة؟؟ واصل بحثه في قلقٍ شديدٍ خشية أن يكون قد حذفه
دون قصد.. صوتٌ تفجّر من أعماقه.. نعم ها هو.. إنه هو.. هذا رقمها.. مشاعر الحزن
تفاعلت مع مشاعر الفرحة.. أحسّ أنه اكتشف بلدًا بل عالمًا لم يصل إليه أحد قبله..
-
سأتصل بها غدًا. نعم سأتصل بها لأتأكد من صدق حديثها.. لكن، كيف سأتصل بها إذا كانت
قد أُجريت لها عملية جراحية؟ لا بد من تأجيل الاتصال. يا إلهي! أيعقل أن تصل نسبة
النجاح في هذه العملية إلى أدنى المستويات.
كان
الهاتف مغلقًا. بإمكانه الاتصال في وقت لاحق على حد تعبير الصوت الالكتروني المنبعث
من الطرف الآخر. محاولات الاتصال لم تتكلل بالنجاح إلا بعد خمسة أيام. الهاتف
يرنّ.. ها هو الهاتف يرنّ.. وأخيرًا.. نعم وأخيرًا فتح الهاتف:
-
نعم أنا والدها. رحمة الله عليها.. لقد أصيبت بورم خبيث في رأسها وسارع الأطباء في
إجراء عملية بغية إنقاذها، لكن قضاء الله وقدره كان أسرع وأقوى..
-
لا بد من ترتيب زيارة خاصة لتعزيتك ولأبوح لك ببعض الأسرار..
-
أهلا وسهلا بكم في كل وقت.. لكن لا تشغل نفسك يا أخي.. الله هو الذي أعطى والله أخذ
ما أعطى.. أرجو أن لا تشغل نفسك. ألا يكفيكم مما أنتم فيه! يكفيكم التمييز والحصار
والتجويع..
أيعقل أن تصاب الفتاة بذاك الخبيث بعد كل الذي أصابها؟! ألا يكفيها ما مرّت به
المسكينة.. حياتها معاناة ومعاناة.. حرام والله حرام.. ليتني كنت قريبًا منك يا هدى
حتى أنتقم من كل الظالمين. رحمة الله عليك يا هدى! رحمة الله عليك. لكن الحقيقة
ستنكشف.. ستسطع كأنها نور الشمس. أعدك أن أكشف الحقيقة بكل ثمن. لا أخاف من قول
الحقيقة أينما كانت. وهذه حقيقة ليست بحاجة إلى تفسير ولا تأويل.. إحساسٌ تنامى في
أعماقه.. لن يفلت الظالمون من العدالة. وإن أفلتوا فلن يغفر التاريخ لهم على
جرائمهم.
تحدّى بجوازه الكنديّ حدود الدول ومراكز التفتيش.. لم تعد هناك عوائق أمامه. تنقل
من مطار إلى آخر بكل فخرٍ واعتزاز بعروبته وجنسيته الجديدة.. كانت ترافقه حقيبةٌ
رُتّبت فيها الملابس وأمتعة أخرى.. حمل بيده آلة تصوير صغيرة
تعوّد بواسطتها التقاط المناظر التي تصادفه في طريقه وتخزينها. وجد الحياة قد فتحت
أبوابها أمامه؛ إذ كانت الحواجز تصعّب عليه التنقل من قريته إلى القرى المجاورة.
الوصول إلى قلعة السراغنة بات أسهل من دخول مدينة نابلس القريبة. ها هو يصلها اليوم
بعد العصر بقليل. يتأبط بيمناه حقيبة صغيرة وتجرُّ يسراه الحقيبة الكبرى.. والناس
هنا بملابسهم التقليدية يجوبون الشوارع
يتأبطون أذرعة بعضهم. بالتكشيطة والوشاح، بالجلابة والطرابيش الحمراء. إنها تذكّره
بملابس والده المرحوم الذي طالما ظلّ يعتمر الكوفية ويلبس الدماية في جميع
المناسبات ويحمل عصاه باعتزاز وفخر كبيرين. كان له حضور واسع. إذا حضر وقف الجميع
احترامًا له.. ولم يجرؤ اثنان على التخاصم في حضرته. كل شيء تغيّر.. لم يعد هناك من
يعتمر الكوفية إلا حفنة من الشيوخ. والدماية انقرضت منذ زمن. والأرض تغيّرت
معالمها. لولا الحياء لأصبح الناس عراةً كالأنعام.. الخجل والحياء صار موضة قديمة..
وأخيرًا وصلت البلدة التي وصلها قبله الكثير من أبناء بلدته. وصلها وهو يشعر
بالتعب. عناء السفر من الممكن التخلص منه بقسط من الراحة أما الأمانة التي يحملها،
فثقيلة جدًّا. لقد أرهقته وأنهكته.
الترحيب بأجمل التراحيب بابن الشام وبكل أبناء الشام في جبال الأطلس. القوم
فاجأتهم أسرار ابنتهم التي حملها خالد من بلاد الشام وجاء بها إلى جبال الأطلس.
ليتها ظلت مدفونة هناك. الأسماء متطابقة مائة بالمائة. مشاعر الحزن التي نقلتها
إليه عبر الشبكة العنكبوتية، نقلها إليهم ببث حيٍّ دون الحاجة إلى أجهزة حواسيب.
شلالات الجروح التي كانت تعانيها سببتْ لهم جرحًا عميقًا لن يندمل أبدًا. أمواج
عذابها التي تنامت وأعمدة انطوائها المتصاعدة كالدخان لم تكن تخفى على أحد من أفراد
الأسرة.
أبراج من الجرائم ترتكب ولا يدري بها أحد. أي صاعقة هذه التي وقعت عليهم. أشهر
قليلة مرّت على وفاتها. أيُعقل أن تتعرض للاغتصاب مرتين دون أن يعلم بذلك أحد. ومن
الفاعل يا ترى؟ فارسٌ ابن الجيران يصلّي عليها ويسير في جنازتها!؟ صوتٌ تفجّر من
بين الحاضرين: الويل ثم الويل لذاك الفاسق الأثيم. قفز كبيرهم من مكان جلوسه وقال
بصوت مسموع: لا بدّ من تقديمه للعدالة، ولا حاجة للاندفاع.
(كفر قاسم)