صفير القطار
وزنة حامد
لم يغمض لي عين في تلك الليلة المثقلة بالعناء , ولم يلمس النوم جفني لهنيهة واحدة ,وأنا أتقلب في الفراش يمنة ويسرة ً, تارة آسر أنفاسي ,وتارة أخرى أتحايل على حواسي بالنوم ,فراراً من انهياراتي العصبية التي تكاد أن تصدع جمجمتي بالسؤال والجواب ...ما من جدوى..؟ أمسكت بغطائي أزحته عن جسدي نهائياً ,ثم نهضت لأتجول في أركان حجرتي المتواضعة مع حيرة وارتباك عجيب, مددت يدي إلى مقبض الباب ثم أدرته لأشرعه ,سرتُ باتجاه المطبخ لعلني التمس داعياً لقلقي وتقلباتي الذاتية هذه.. ربما إنه العطش .
أجل أنني عطشى سأشرب كوباً من الماء وأعود إلى فراشي .
رجعت إلى حجرتي لألملم بعض أوراقي المبعثرة هنا وهناك ,والفوضى تعم الحجرة ربما تحتاج إلى أيام لإعادة ترتيبها من جديد, ثم تمددت على الأريكة في اللحظة تلك تناهى إلى مسمعي نبرات أمي الدافئة أحسست للوهلة الأولى إنها آتية نحوي .
- ما الذي أبقاك يقظة حتى هذا الوقت المتأخر من الليل يا نسيمة ...؟؟
- لا رغبة لي في النوم ...؟؟
- لما يا ابنتي... ؟
- لا ادري ..
-أتشتكين من شيء ما ...؟
كلا يا أمي لا تعطي للموضوع أهمية أكثر من اللازم...
انك تكثرين من احتساء القهوة في هذه الأيام لهذا يحرمك من النوم ويدفعك إلى الأرق ..
قد يكون هذا صحيحاً , ثم أردفت احتاجك كثيراً أنني احن لان تضميني إلى صدرك الدافئ لأنام معك -اقصد في فراشك - اشعر أنني منهكة جداً .
لك ما تريدين وأدرك تماماً إنه مأواك الوحيد كلما ضاقت بك الدنيا .
إن نبضات حنانك كالنبع تداريني كلما هبت علي رياح الألم
- إذا تعالي معي ..؟
- اذهبي إلى غرفتي وسألحق بك على الفور .
أوصدت أمي الباب وراءها ورحت أعيد ذكرياتي تدريجياً كم رجوت أن استطيع إيقاف ذاكرتي لعلني أنسى كل شيء ,ولكن لقاءنا الأخير يطفو كلما حاولت النسيان وذاكرتي ليست حيادية لأنها تحتفظ بنبرات حسك ... أتذكر عندما جاء نادل ( الكافتيريا ) وقال : ماذا تشتهيان أن اجلب لكما ... أنت طلبت القهوة ثم دخنت سيجارة فأما أنا : اكتفيت حينها بالتأمل في صورتك ,أخشى أن أفقدها إلى الأبد إذا ما تداريت فيها هنيهة حتى كرر النادل ثانية : آنستي ماذا تشتهين أن اجلب لك .
لولا تقديري للنادل لما طلبت منه شيئاً لان حواسي تلتهمك وهي الآن مشغولة في قراءة تضاريس وجهك, إنك الآن أمامي كاللوحة الجميلة الثمنية لا أستطيع شراءها فقط أريد من يفسرها ويفك طلاسمها ,وأدرك جيداً أنني سأفقدها ربما في هنيهات قليلة ..
حينها أجبت النادل .
أنا أيضا أريد فنجان من القهوة .
سألتك وأنت تنفث دخان سيجارتك
غسان أهو قرارك النهائي ...؟!
أجبتني : نعم
وماذا عني ..؟
لنبتعد عن الحب قليلاً ماذا تنتظرين من شخص خالُ من المال لا أستطيع أن أتقدم لخطبتك ووالدتي المريضة تحتاج مني إلى مبالغ لشراء دواءها شهرياً وأختي أيضا تحتاج إلى مصاريف الدراسة, والبطالة تكاد تقضي علي, حيث لم استطع الفوز بوظيفة رسمية ولا عمل ثابت لدى الأهالي ولا حتى الفوز بعمل يومي غير مستمر .
قاطعتك وهل رحيلك سيحقق مبتغاك .
سأحاول ..
احتسينا القهوة معاً والحزن باد على الموقف وكأن الموجودين في ( الكافتيريا ) يودعونك معي وينحازون لمشاعري, قلت وأنا أتوسلك والدموع تذرف من مقلتي.
كم أنا محتاجة إليك غسان ربما أكثر من الحياة ذاتها لأنني لا استطيع العيش في غيابك .
وافقي على الزواج من ابن خالتك الدكتور عمار وهو سيؤمن لك حياة آمنة وتأكدي أنني سأكون مسرورا لكما بقدر ما سأتوجع ,لا تنتظري رجلاً تائهاً من غير عنوان .
أتسدل الستار على علاقتنا ..أتراهن أن كنت استطيع نسيانك أم لا .
أرجوك أن تتعودي على رحيلي لذلك حاولي أن تعيش حياتك الطبيعية .
ومتى سترحل ..؟
في الساعة الثانية بعد منتصف الليل
طبعاً ...بالقطار .
وماذا ستقل في حقيبتك .
لا شيء ربما احتياجاتي فقط...؟؟
حينئذ تركت غسان وركضت كالمجنونة لابتعد عنه ثم تجولت في الشوارع أقرأ وجوه المارة وأبوح في داخلي يا ترى كم من هؤلاء البشر يشكون ما اشكي من الجرح ,وفي وجوه من أبحث عنك يا غسان , هل بقية ما يستحق لي أن أعيشه بعد رحيلك , وهل هناك مساحة من الوقت حتى أتأمل فيه ذكرياتنا مع الأحبة , أم أن الوقت تداركنا كثيراً لا أريد أن أشفى من دائك يا غسان ,حبك كالرمال المتحركة كلما حاولت الهرب منه كلما غرقت فيه أكثر ,الحزن يعتريني والشحوب ينسدل على المدينة بكاملها والأمكنة تنوح وداعاً لبعدك الصعب ,وكأن حواسي منذ رحيلك على موعد مع (صفير القطار ) ترفض أن تغفو تهب عند سماعه توقظني من سباتي فيقفز مجيئك إلى خاطري سريعاً .
أشرعت أمي الباب ثانية وقالت :
حل الفجر أمازلت يقظة ...؟؟
اجل أمي من ثم صاحبتها إلى سريرها رميت بجسدي إلى جوارها لتحضنني بحرارة وكأنني طفلة صغيرة شعرت براحة غائرة ورحت أغوص في نوم عميق .