رسالة بلون الدمع

سميح الجعبري

[email protected]

القدس الشريف

رؤية اللوز الأخضر في السوق تعلن رسمياً بداية الربيع في فلسطين، والربيع في فلسطين يعني لي أن قرى مدينة رام الله قد لبست ثوب زفافها وتزينت بشقائق النعمان واستعدت لملاطفة نيسان والانتشاء بنسيمه الأنثوي. فلا أستطيع أن أمنع نفسي من زيارة  صديقي الاستاذ صفوت في إحدى قرى غرب رام الله. وهناك ...

السكون يصمّ الآذان، أمد يدي لأتناول كأس الشاي من صينية عامل المقهى، شاي لا يزال يُحضّر بالطريقة التقليدية لم أتعوّد أن يكون بهذه الشفافية، بلونه الأحمر كأنه عين الديك، أكلم صفوت ونتضاحك بينما كانت عجوز يعلو وجهها حصاد سنوات طوال، تقودها عصاها وتفوح منها رائحة أيام الخير، لم آبه كثيراً بثوبها المغبر الذي لم يغادر جسدها منذ زمن ولا بحذائها المشقوق من الأسفل بل تملّكتني لبضع لحظات تلك النظرة الحزينة في ما تبقى من عينيها الخضراوين وهي تمر من أمامي وهي تنظر إليّ لا بل إلى أبعد أبعد مني وحتى أبعد من وجودي في هذا الكون. مرت من أمامي وكأن شعباً كاملاً بتاريخه وحضارته مر أمامي. بدا الأمر طبيعياً لصفوت واستطرد في كلامه ولكني كما لو كنت تحت الماء، أسمع من حولي ولا أشعر وزني ولا أستطيع أن أجيب، فلم أبذل جهداً بسماع صديقي وتركت نفسي مستسلماً للحظة وتبعتها بكل حواسي إلى أن جلست إلى طاولة في طرفها رجل يحمل كتاباً فاسترقت السمع...رسالة... اكتب لي رسالة إلى قلبي...

ولدي حبيبي

متى ستعود ؟

مرّت عشر سنين على وفاة أبيك ولم تعد، متى ستعود ؟ لم يعد الزيتون يحمل زيتوناً والصدأ أكل المعول والأرض ضاقت بترابها وتريد الرحيل، فمتى ستعود ؟ أنا لم أخبرك من قبل أن خطيبتك أمل قد وضعت مولودها الخامس، فمتى ستعود ؟ والدنيا تغيّرت وأمك لم تتغير، فأنا لم أخلع ثوبي الذي تعرفه كي تعرفني عندما تعود، فمتى ستعود ؟ آه ... الدنيا تغيرت والدنيا تغيرت، من كثر الناس لم أعد أرى البشر ومن كثر الشجر لم أعد أرى الأرض ومن كثر الأغاني لم أعد أسمع نفسي ومن كثر الأيام لم أعد أدري ماذا يجري من حولي وكأنني نمت خمسين سنة ولم أعد أعرف أحداً غيرك، فمتى ستعود ؟ غرفتك ما زالت على حالها، بسريرها قرب النافذة وستائرها الجديدة والمسجّل والمرآة والخزانة التي صنعها لك الحاج مطير. ولدي... من يوم ذهبت صارت كل الألوان رمادية، حتى السماء صارت رمادية ورائحة النعنع في الحوض صارت رمادية ونظرات الجيران صارت رمادية فمتى ستعود ؟ ولدي... كثيراً ما أكتب لك دون أن ترد على رسائلي، أم أن تربيتي لك كانت قاسية ؟!! قالوا في المثل :

زرعتك يا شجرة لآكل منك ثمرة. أنتظرك لتعود فمتى ستعود ؟ أنتظر هداياك وكم وعدتني بها، أريد ثوباً جديداً ألبسه يوم تعود وأريد حنّاء سمراء وأخرى حمراء لأحنّي شعري حين تعود وأريد سرير أطفال وأرجوحة وأريد بذلة عرس رجالي وأريد سبحة طويلة وطقم فناجين شاي قيشاني وأريد بساطاً جديداً ولحاف قطن وأريد وأريد وأريد أن تعود، فمتى تعود ؟ ألم تجعلك تسع الأشهر التي عشتها في بطني تحنّ إلى أمك، وحليب عامين من صدري ومن قلبي ومن عيني لم يذكرك بأن عجوزاً ما عادت تحيض لتنجب غيرك تنتظر أن تعود، فمتى تعود ؟

في النهاية، عليّ أن أودعك فالدمع الذي أكتب به رسالتي قد جف، فمتى تعود ؟

قامت وتركت المقهى بأسرع مما دخلت دون أن تأخذ الرسالة وهي تحبس أنفاسها لكي لا تجهش بالبكاء، وصديقي ما زال يربت على كتفي وأنا مشلول الحواس، فانتبهت بعدما توارى ذيل ثوبها خلف جدار المقهى فسألته عنها وأنا أنظر بين قدمي لأخفي إفرازات كالدمع بسبب الغبار أو ربما حشرة صغيرة دخلت عيني، فأجاب : هذه أم خضر. فسألته عن ولدها فقال : مسكينة، كل يوم جمعة تأتي إلى المقهى وتطلب من أحد الجالسين أن يكتب لها رسالة إلى ولدها الذي استشهد يوم زفافه.