ظلم أبي

وزنة حامد

[email protected]

أمسكت أمي بيدي وسارت في طريق القرية المعتاد المؤدي إلى الطريق العام , بعد أن سلمت أختي الصغيرة إلى إحدى الجارات, تاركة وراءها كل شيء كأنها غير مبالية , ولا يهمها ألا أن يتوقف سعالها ولو مؤقتا , فهي تقول لنفسها في بعض الأحيان إنها ذبحة صدرية .

مشينا مسافة طويلة فلم تتفوه أمي بكلمة الصمت .. الصمت كعادتها وصلنا الطريق العام , جلسنا ننتظر , وإذ بسيارة الركاب تتوقف أمامنا , ركبنا والأحاديث كثيرة , كل منهم يتحدث عن قصة مجيئه إلى المدينة , انظر حولي لا افهم شيئا مما يتحدثون عنه الا أن أمي كانت في عمق تفكيرها والسعال الذي لا يفارقها لحظة وأخيرا .. المدينة ..! نزلنا وسط الزحام , اتامل كل شيء , إنها اكبر من قريتي بكثير وفيها أناس كثر .. والدكاكين أيضا ومأكولات طيبة حيث جرتني أمي من يدي فكادت سيارة تصدمني .. سألتُ : أمي احد المارة :

-  مرحباً

-  مرحباً سيدتي

-  هل بإمكانك أن تدلني على هذا الطبيب ..؟؟ بعد أن   عرضت عليه ورقة مكتوبة عليها اسم الطبيب

-   نعم يا سيدتي إنه يسكن هناك . قصدنا الطبيب والعيادة أيضا كانت مزدحمة , ناولت أمي الممرضة أجرة المعاينة وجلسنا ننتظر دورنا , تبادل الأحاديث عن المرض كثير,

-  تقدمت الممرضة من والدتي وقالت لها

-  تفضلي دورك

-   شكرا لك دخلنا غرفة الطبيب إنها مرتبة ..؟ آه حتى الطبيب نظيف , ويلبس صدرية بيضاء وكم هو  لطيف عكس ابي , عامل امي بلطف , وقال لها : تفضلي سيدتي ولامس شعري وسألني عن اسمي وابتسم لي , تقدم  من أمي  وبدا يفحصها فحص دقيقاً ويكثر من الأسئلة الا ان أمي قالت له :   

-  هذه أول مرة اعرض نفسي على طبيب أجابها الطبيب وملامح اليأس بادية على وجهه :

-  كان عليك أن تعرضي حالتك على الأطباء قبل هذا الوقت سيدتي ..؟؟ بهذا انهي الطبيب فحصه لأمي وقال لها :

أرجو لك العافية سألته أمي عدة أسئلة وصوتها مخنوق في حنجرتها حاول الطبيب أن يواسيها ويخفف من آلمها بكلمات طيبة الا أن الواقع لا بد منه وصف لها بعض الأدوية فقط , رجعنا في المساء الى البيت كان أبي متكئا على مخدته يلف سيجارته من التبغ الذي لا يفارقه أبدا لم يبال بمجيئنا ولم يحرك ساكنا ولم يسألها عن مرضها ولم يواسيها بكلمة , أشعل سيجارته ودخنها بصمت جلست بمقربة منه نظرت إليه , قلت في أعماق نفسي , ليتك كذلك الطبيب يا أبي فانا اكره قسوتك وظلمك لأمي , حتى انك لا تكاد تخرج من البيت حتى تصبح مهزلة لأطفال القرية , تعتمد على أمي في كل شيء وتعاملها بإجحاف قطعت أمي افكاري وطلبت مني أن احضر أختي الصغيرة من عند الجارة احضرت أختي ضمتها أمي إلى صدرها قبلتها بعمق في هذا الليلة لم يغمض لأمي جفن فاشتد عليها السعال , وساءت وضعها الصحي يوميا بعد يوم في إحدى الليالي استيقظت على صوت أمي فكانت تنوح وتبكي وهي تضم أختي الصغيرة إلى صدرها , أبي كان يسمع كل شيء  يراه , لكنه غير مبال , فقد اعتاد أن يضربها ويقسو عليها فقط . بكيت أنا أيضا بصمت كي لا تسمعني أمي , وقلت في أعماق نفسي : آه يا أماه , كم تحملت من ظلم وقسوة ..؟؟ في إحدى الصباحات تأخرت أمي في نومها على غير عادتها فرحت لذلك كثيرا , هذا يدل على أنها تحسنت قليلا فتحت جارتنا الباب , ونادت أمي : ألهذا الوقت أنت نائمة .؟؟!!

أبي خرج من البيت منذ الصباح الباكر مدت الجارة يدها إلى وجه أمي وصاحت بأعلى : صوتها : إنها ميتة ..!! التم كل من في القرية من نساء ورجال ورجع أبي لتوه الى البيت , لم ينطق بكلمة غير التدخين , بكاء النساء ونواحهن يذبحانني ويتلاشى قلبي معه , ارتميت على صدر أمي , انه الموت ذلك الشبح الأسود الذي لا يرحم كم رائحتك طيبة يا أمي ..!! في هذا الوقت كانت كل مراسيم الدفن قد حضرت , دفنت أمي ..!! انتهى كل شيء بالنسبة للموجودين .!! أما نحن أفراد العائلة لم ننم تلك الليلة , أبي كان يهدي من روع أختي الصغيرة , علامات الحزن بادية على وجهه .

توالت الليالي والأيام ساءت أحواله أيضا أبي الذي ندم على ما فعلته بأمي , أصبح يبكي كثيرا ويحزن لفراقها , كأنه يريد أن يرجع الماضي , أو لزمن إلى الوراء , لكن دون جدوى فلاشي يواسيه , سيجارته فقط وبعض القهوة التي لا تتواجد في البيت غالبا لازم أبي الفراش لم يعد قادرا على مغادرته لان أحواله الصحية ساءت ولكن من الذي سيعتني بنا أنا وأختي ..!!

حاولنا بتوجيهات من أبي أن ندير أحوالنا لم ينتظر الزمن كثيراً ولم يشفق القدر , فقد خطف شبح الموت والدي أيضا ولم يبق لنا إلا شفقة أهل القرية  علينا فقد اتفقوا إن يأخذ كل بيت واحدة منا لأنهم لا يستطيعون تربية الاثنتين معاً وهكذا أمسكت كل جارة بيد واحدة منا وذهبت بنا إلى بيتها شاء القدر أن نفترق ولم نكن نلتقي الا عندما نلعب في زقاق القرية أو في فسحتها ..

توالت الأيام يمر الزمن ولا يترك الا الحرمان , في احدي الصباحات الباكرة ذهبت إلى البيت الذي تسكنه أختي , وقصدت فراشها وهمست في أذانها  وايقظتها من نومها العميق طلبت منها أن تتبعني بصمت , أمسكت بيدها كما كانت تفعل أمي وسرنا في طريق لا اعرف له نهاية المهم أن نكون معاَ , اشتد علينا الحر والجوع جلسنا لنرتاح قليلا , وإذ بكلتينا نغوص في نوم عميق , أفقت فلم أجد أختي ..! ركضت هنا وهناك , ابكي وأصيح بأعلى صوتي دون جدوى وهكذا وصلت إلى طريق مزدحم بالسيارات , أخذني رجل كريم رباني كابنة له الآن أصبحت في الثامنة عشرة من عمري ومازلت ابحث عن أختي الصغيرة ...

              

* ظلم أبي , قصة من مجموعة تداعيات من الذاكرة 2007.