صداقة مُرّة
د. أسعد بن أحمد السعود
قدرٌ محكم التخطيط ، محتوم النتائج ، دقيق الوقائع، مدهش الأحداث ، عجيب الألوان
كل هذه الجمل والكلمات التي بدأت بها من بديهتي الفطرية ، لم أنشؤها من ثقافتي ، ولا من تعليمي ، ولم أستقها من أي من المصادر التي صادفتها أو خالطتها ، سواء كانت خاصة أو عامة ، وكذلك لم أتعلمها أو أكتسبهامن صديقي الذي كان سبب هذه القصة .
بإختصار شديد وحتى لا أطيل عليكم الديباجة أو مدخل قصة صداقتي أو هي قصة حياتي كلها ، فإني سأصارحكم بلغز حكايتي ومباشرة ،ومن دون أدنى تهويل ولا شد أعصاب !.
أنا أحدثكم من العالم الآخر ، العالم الذي لم أعرف عنه شيئاً طيلة عمري وأنا حيّ،
أنا ميّت الآن! وبعدما متّ عرفت هذا الذي بدأت حديثي به ( قدر محكم التخطيط ) .
لا يكاد يمر ّ يوم من دون أن أشاركه حياته ، ولو وجبة طعام أوحتى شراب ،وهذه كانت أقل الساعات التي اخالطه به في مسكنه ، أو في تسكعاته ، أو في شروده الذي كان غالبا عليه وطاغياً لدرجة أنه كان ينسى أنه جائع أو عطش وكنت أحسبه حينها أنه قد فارق الحياة .
لا أعرف مالذي جمعني أوقربني إليه ،كان ودوداً كريماً ، لم يكن له أصدقاء كثر،
كنت أقربهم إليه ، بالرغم من أني كنت متسكعا مثله ، فقيرا لامورد لي ،ولا أملك أي حرفة أو موهبة كما يملك هو ، إلا أني كنت أغيب عنه أحياناً لأيام قليلة لأحصل على دريهمات قليلة مقابل بعض أعمال أقوم بها لأصحابها .أشتري بها وجبات دسمة من الطعام نتناولها معا ،كان يفتقدني فأحس بالغبطة وبأهميتي الإنسانية من ذلك لديه حين أشاركه الإنفاق مثلما يفعل هودائماً .
كنت أشعر بكثير من الإرتياح في قضاء وقتي الأكبر معه ،سواء في المسكن الذي لايشبه سكن البشر، أو مرافقا في بعض تجوالاته أو زياراته لبعض البيوت الفخمة والعادية أو لأماكن قذرة ، كانت هذه الزيارات هي المصدر لحصوله على المال ولو كان قليلاً متقطعا ، إلاّ أنه كان المصدر الوحيد .والذي يحصل عليه ينفذ ببضع أيام قليلة ، كان يستقبل بعض الناس في مسكننا حيث الفوضى بكل ماتحتويه ، ليرسم على أماكن من أجسامهم بطريقته الإبداعية ألأخاذة باسلوب الوشم ، لم يكن أحداً في البلاد ولا في العالم أيامها كما يقول لي دائماً ، مثله يرسم مناظر جميلة رائعة وبهذه الطريقة الفنية المتقنة ، كان يقول أنه استقاها من التاريخ الشرقي القديم ، لم أكن أعيرلكل ما كان بقوم به أو يحكيه بالاً ،كنت أحسب نفسي لا أفقه شيئأً أو أمياً بما عنده وفي مقابله ،ومع ذلك كان يحترمني ويكثر من التحدث معي، ربما كان يعتبرني مستودعه الأمين لحياته أو لثقا فته أو لعمله ! لست أدري !،وماكان في الوقت ذاته ليستقر في ذاكرتي شيئاً من ذلك أبدا ، إلاّ من بعد ما خرجت أو أخرجت من الحياة ؟!.
كان تركيزي ينصب على المال الذي يحصل عليه، لنعيش به ببذخ جارف يختفي بأيام سريعاً، فنقبر به الإفلاس المخيف وحياة الشظف المرعبة .
مضت بنا السنون هكذا من دون أن يتبدل أو يطرأ شيئاً على حياته أو حياتنا نحن الإثنين ، يوماً رأيته متعكر المزاج فاقدا للحيوية التي عهدته بها ، قلت في نفسي لعل الإفلاس الذي جثم علينامن فترة ولم يرحل هو السبب ؟ تكررت هذه الحالة بالرغم من بعض بارقة أمل لاحت بيننا في(رسمة )أنهاها على مضض ، وكان صاحبها سخياً ، ويوما والحالة تزداد فيه وقد زادتني هلعاً وقلقاً ، طلب مني أن أريه ظهري عارياً ،فلم أمانع بالرغم من شدة البرد ، أخذ يتأمله ويتحسسه ويشير عليه بأصابعه ،تارة أحسّ به يخط خطوطاً ، ومرة يذهب بها متعرجة ، وأخرى يستقر ثم يكمل , وهكذا أرخيت له ظهري وقتاً ، حتى أكتفى من التأمل فيه ثم دفع به ، ولم ينطق بأي حرف سوى همهمات وتنهيدات غير مفهومة ، سألته بكل هدوء وود :
ماذا وجدت في ظهري يا عزيزي ؟،عدوى الجدري ؟،أم دمامل بق الفراش ؟،أم عظاماً ناتئة لظهر رجل خشن يعج ببقايا حبوب مندملة، بخلنا عليه بالطعام فلم نكسوه غير الجلد الثخين ؟.
وجدت صاحبي يبتسم بعض الشيء ، لم يجبني بكلام واضح ،وإنما بالشحوب الآخذ بالإزدياد والطاغي على بشرة وجهه ،عادت إليه حالته التي أصبحت تزداد ولا تقل .
علق بعبارة غريبة :
-انه المكان المناسب لهدية مناسبة لصديق وفيّ مناسب !!.
بعد أيام والجوع بدأ ينذرنا ، أخذت ملامح التعب والإ نهيار تأكل من حيوية
صديقي أكثرمن ذي قبل ،وحين أشرت عليه بالذهاب لأي طبيب ، لم يرد علي سوى بإبتسامة صغيرة وبعضاً من السخرية العاجزة عن فعل أي شيء ، وفوجئت بتجدد طلبه الغريب قائلاً:
- بعد أن أنهي رسم اللوحة الفريدة على ظهرك ياصديقي !!!.
لا أعرف كيف مضت تلك الأيام العصيبة ، والظروف العاتية التي عصفت بنا نحن الاثنين ، ولا أدري إن كان هناك ثالث لنا أورابع ، فقد كنت لاأرى سواي يشاركه تلك الحياة البائسة ، واختفى صديقي نهائياً !، لم يستطيع مقاومة المرض الذي نال منه من دون أن أفعل شيئاً يوقف ما ألمّ به ، تركني وحيداً مرة أخرى تتقاذفني أرصفة المدينة وأماكن وزوايا رمي القمامة وقاذورات البشر!.
حتى كدت لاأدرك أين أنام وكيف أصبح ، وماذا آكل وكيف أقاوم عراك الجوع وهجوم عواصف البرد الذي لا يرحم أبداً ، وفوق كل هذا وذاك ، وحدتي وغربتي القاتلة اذ لم يعد أحدا يطلب مني أن أحمل له أي أمتعة ،أو ينظر إلي ولو نظرة واحدة من بعيد أو من قريب أو يعطف علي حين أتسول .
غابت كل الدنيا من أمام ناظري ، لم أعد أرى أحدا من الناس حولي،ولاأدري إن كانت هي التي ذهبت أم أنني الذي غبت !!. أدرك شيئاً واحداً فقط : أننا كنا أصدقاء ، كما كنت وصديقي الوحيد ، رأيته هو الذي ذهب وتركني عندما دفن في المقبرة ،بكيت كثيراً عليه لأيام طويلة، أما الدنيا وناسها فلا أدرك أينا ذهب وترك الآخر قبل !!.
كانوا عدة رجال غرباء ، أطعموني وجبة شهية وشراباً فاخرا في مكان فخم وغريب ،
وبعدها ارسلوني إلى حيث يقيم صديقي الرسام ،هكذا كنت أسمعهم يتحادثون فيما بينهم ، عندما وضعوني على طاولة حديدية باردة جدا ،كتلك التي رأيت صديقي ينام عليها يوماً ما ،نومته الأبدية عندما جئت لأودعه في المستشفى ،استقبلني مرحبا كعادته ولا زال الشحوب يكلل بشرته، بارك لي وبشّرني بأن جلد ظهري أصبح لوحة فنية عالمية، تصدرت أفخم المعارض وسجل عليه ثمن بملايين الدولارات...؟؟!!.