حق الكماية
عبير الطنطاوي
زحمة الطرقات .. حدة الشمس .. عصبية السواقين .. صراخ الباعة المتجولين .. وطلاب مدارس يمرون مسرعين من أمام السيارات .. غبار المدينة وضجيجها .. والوقت ضيق .. والعمل لا ينتهي .. قال عبدالله في نفسه :
" آه من الوقت .. موعد إثر موعد .. لقاء إثر آخر .. يا رب بارك لنا في أعمارنا وأوقاتنا وتقبل منا صالح الأعمال .. "
وفيما هو غارق في تأملاته وهو واقف عند إشارة المرور ؛ لحظ عن بعد امرأة فلاحة تقف منكسرة على الرصيف تبيع الكمأة في (قفورة) بالية ، وما إن رآى الكمأة حتى تبادر إلى ذهنه المليء بمشاغل وهموم من يحمل على عاتقه نشر دين الله ؛ تبادر إليه أمه (كلثوم) التي لا تحب في الدنيا طعاماً كما تحب الكمأة والتفاح .. ولكن .. الطريق مزدحم .. والمرأة تقف في مكان يصعب الوصول إليه إلا بشق الأنفس ، ولكن صوتاً في داخله يقول :
ـ والله يا عبدالله فرحة الحجة بكنوز الدنيا ..
ولم يدر بنفسه إلا وقد وجد مخرجاً من الازدحام وتمكن من صف السيارة بمكان قريب وتوجه مسرعاً إلى تلك الفلاحة وخطف منها كل ما معها من كمأة ومد لها يده بالنقود وانطلق مسرعاً ، ولكنه سمع الفلاحة تصرخ :
ـ يا أستاذ أعد لي القافورة وإلا ادفع ثمنها ..
أخرج من جيبه ثمنها.. ناولها بضعة فرنكات وهو يبتسم في نفسه .. فأمه في (إعزاز) أكيد ستفرح بالقافورة وما فيها ..
ومشى بضع خطوات عند أقرب محل لبيع الفاكهة فحمل ما شاء له أن يحمل لأمه من التفاح ..
ركب سيارته الصغيرة المبروكة .. وبدأت حسابات قلبه وعقله .. ما معه سوى ساعات قليلة يذهب فيها إلى أسرته المكونة من زوجة وسبعة أولاد ليتناول معهم غداءه ثم يرتاح قليلاً ليسافر إلى حيث العمل الدعوي يطلبه ..
ومن دون إرادة رآى سيارته تركض وتعرف طريقها جيداً إلى (إعزاز) بلدته الحبيبة التي فيها مولده حيث الأم الحنون والأب الرحيم والأخوات الغاليات والإخوة الأعزاء .. كان هدفه أن يلثم بفمه الطاهر أيدي الوالدين ويرى بعينيه الحنونتين فرحة أمه بما جلبه لها من أكلات مفضلة عندها ، ويسمع بأذنيه كلمات الرضى والدعاء والحب .. كان هذا بالنسبة له زاده في سفره لا أن يأكل ما أعدته الزوجة في البيت ولاحتى ما سيأخذه من الراحة بعد الغداء .. حتى لو سافر من حلب إلى اعزاز فبهذه الدعوات راحته وزاده وزواده ..
وتمضي الأيام وتدور الأحداث على عبدالله أستاذ اللغة العربية والمربي الفاضل والداعية إلى الله ودين الله .. وتقوم سلطات النظام باعتقاله وسجنه مع إخوانه الأشراف في سجون حافظ أسد ؛ وصدر حكم الإعدام على عدد ممن معه في السجن من الإخوان ، وفقد الأمل من نجاته ، وما كان له من ملجأ إلا الله عز وجل ورضى الوالدين ودعاء المحبين .. وتقوم السلطات بإعدام مجموعة كبيرة من خيرة الشباب ممن كانوا في سلك العمل مع عبدالله .. وعبدالله وأهله وأحبته قد استسلموا لقضاء الله وقدره .. إلا أن عين الله لا تنسى رجلاً عفيفاً رضياً .. ودعوة أم صالحة ورضا أب عابد لا يمكن أن تضيع عند المولى عز وجل وصلة الرحم ودعوات الأخوات لعبدالله فهو الأخ البار الكريم .. وفجأة يصدر حكم بالإفراج عن عبدالله ؛ ويخرج عبدالله من السجن معززاً مكرماً بأمر من الله .. وتقام له الأفراح في شارع بيته وفي بلدته (إعزاز) ؛ وبينما هو في فرحته ، إذا بالشيخ الجليل (محمود) والده التقي بلحيته البيضاء التي شابت في الإسلام وفي حب الإسلام ، يقول له :
ـ هل قبضت حق الكماية يا ولدي ؟
نظر عبدالله في عيني والده التقي الذكي النقي .. وسرح بخاطره قليلاً ولكن الولد سر أبيه ففهم مقصد الوالد الحنون .. فقال له :
ـ إي والله يا والدي لقد قبضت ثمنها وزيادة ..