أمام دار المسنين
مصطفى العلي
[email protected]
سيارة توقفت فتوقفت عندها مشاعري بل وقف شعر رأسي على آخره وأنا
أرى ذلك المشهد.... أعني تلعثمت أحاسيسي ... اختلطت ببعضها وما عدت أتبين أي نوع
منها ينتابني! ... رجل يبلغ من العمر عتيا تمكن الشيب من شعره والتقوس من ظهره حتى
غدا مثل العود محنيا ... فكأنك أمام رقم اثنين له ساقان يمشي بهما بين الناس بل بدا
بعد أن أضافت له السنون ساقا ثالثة أشبه مايكون برقم واحد وعشرين..... بعد أن كان
في غابر الأيام ذا فتوة وقوة نزل به السلّم حتى ضعف وخار وعاد كالعرجون القديم
...يمشي في خطوات وئيدة مرتجفة كمن يخشى أن يسقط من رأس شاهق لو سابق السلحفاة
لكانت الفائزة عليه بالتزكية .... شجرة من بشر تساقطت أوراقها فبدت كومة حطب بعد أن
تخلى عنها ثوبها الأخضر وغادرتها أيام الجمال والبهاء والنضارة ... تركت محاريث
الأيام في وجهه المتغضن أخاديدا لا يمكن أن تمحوها كل عمليات التجميل.
يتكأ على مرافقين فيهم من القوة ما دفعهم لحمله لمّا استبطأووا
خطواته يدخلون به بابا كتب في لافتة امتدت فوقه دار المسنين...
- من هذا ؟! من هؤلاء !؟ أين يذهبون به !؟؟
أسئلة كثيرة تسابقت إلى لسان نفسي ... صور تلا حقت في ساحة
مخيلتي أمام هذا المشهد... بيد أن الأمر من الوضوح بدرجة لا يحتاج معه لأي تبيان ..
فمن الواضح أنهم لا يذهبون به إلى منتجع للاسترخاء ولا مكان لهو ورفاهية يمضي فيه
أوقاتا سعيدة تنسيه حقيقة أنه على حافة قبره بل هم من أتوا به ليضعوه على عتبة قبره
أعني وضعوه في موقف باص الآخرة....
أي مشاعر يمكن أن تنتاب مثل هذا الرجل وهو يثبّت حجزا في رحلة
إلى بلاد تعمل وسائل النقل إليها ذهابا فقط إذ لم يُعلم حتى الآن عن مركبة قادمة من
هناك تقل على متنها أحدا من أهل الحياة...
- من يكون هذا الرجل !؟ .. ساقاه المرتجفتان تدلان أنه جاب بهما
أصقاع الحياة .. صعد بهما تلالها ونزل وهادها حتى أصابهما الوهن ولم تعودا تقويان
على حمله .. يداه المرتعشتان توحيان أنه أمسك بهما مفاتيح الرزق زمنا.... رفع بهما
وحمل وأنزل وأخذ وأعطى - من يرافقونه اليوم إلى مقلب قمامات الأحياء- ما وسعه
العطاء لطالما حمل لهم في آخر نهاره ما يطيرون له فرحا من غذاء وكساء ودواء وألعاب
ثمنا لكدّه وعرقه وتعب يومه ! ... حتى إذا لم يبق لديه ما يعطيه واحتاج أن يأخذ
أُتي به ليوئد وهو على قيد الحياة ... ظهره المحني وكتفاه المهدودتان تقولان أنهما
حملتا أثقال من هم وراءه دهورا وهم يهربون اليوم بعد إذ عجز من القيام بشأنه شهورا
..
صوته المبحوح ... لربما بح وهو ينادي من أجل سلعة يبيعها
...كمثل جارنا بائعا على عربة خضار يصل الليل بالنهار يضع القرش فوق القرش يجهد
نفسه ليرتاحوا ويمنع نفسه أشياء كثيرة لكي تقر عيناه برؤوية أولاده سعداء موفورين
يجدون كل ما يحتاجون ويشتهون... بل لربما بح صوته في التعليم لايدخل لسانه إلى حلقه
وهو يشرح ويفصل ويوضح لايطمح الآن بأكثر من نظرة شفقة ... ألقي به كعلبة السجائر
الفارغة تركل بالأقدام بعد أن كان موضعها في مكان قرب القلب تحظى بكل عناية
واهتمام....
موقف يختصر إنسانية الإنسان في شعارات زخرفها الشيطان ليس لها
على أرض الواقع أي مكان إلا عند من رحم ربي من أهل التقوى والصلاح والإيمان ....
فهل ترى نكون "نحن" منهم في الحقيقة والبرهان أم يبقى منا مجرد ادعاء وقول لسان.