الولد الليبي
توقف عن الشرح ، وثبت عينيه على تلميذ صغير البنية في المقعد الرابع من السطر الأوسط في الصف .
ابتسم ، وناداه ، وتخاطف التلاميذ اللمحات الحافلة بالاستفهامات . لم يسمعوا صوتا أو يروا حركة تستوجب توقف المدرس المفاجىء عن الشرح واستدعاء زميلهم . واستقرت عيونهم على الاثنين توقعا مبهما وانتظارا متحيرا لما سيحدث .
قال المدرس : أنت يا ولد تشبه ديان !
وكان في حافة سؤاله عن اسمه . هذا ثالث يوم له في تدريس الصف مادة العربي إلا أن انفجار التلميذ بكاء قطع سؤاله . واندلعت الهمهمات والنظرات بين التلاميذ ، ووقف تلميذ بدا أكبر سنا من أن يكون في الصف الأول الإعدادي ، وقال محتجا منفعلا : كيف تشبهه بديان اليهودي يا شيخ ؟!
وارتفع بكاء التلميذ بعد سؤال زميله الاستنكاري ، وقال يصارع بكاءه : تشبهني بديان ؟!
سأعلم أبي .
وقصد الباب ، فلحقه المدرس ، وأحاط عنقه بذراعه وقبله ، وأعاده إلى مكانه قرب المنضدة .
قال :سامحني ! لم أرد الإساءة لك .
ونظر إلى التلاميذ وخاطبهم : لم أرد الإساءة إليه . ما اسمه ؟
فأجابه أكثر من صوت : علي . علي غومه .
وقبله ثانية ، وقال : ما أعظم وعيك ووطنيتك يا على !
وتوجه إلى التلاميذ : أنا في أكبر سرور من وعيكم ووطنيتكم .
وكان في قرارة نفسه أكبر تفاجؤا وسرورا من وعيهم وشعورهم القومي مما أبانته كلماته . تلاميذ صغار في مستهل الصف الأول الإعدادي ، وفي واحة ، قرية ، مضيعة في جوف الصحراء ، وعلى هذا الوعي الرفيع والشعور القومي الصادق الملتهب ! وتخالطت في قلبه المسرة بالندم ، ولام نفسه على رداءة تصرفه وما فيه من تخلٍ عن التروي ، وحاول التعزي ، دون اقتناع ، بمفاجأته بما بين التلميذ وديان من تشابه رأسا ووجها وحتى ضآلة بنية على ما بين الاثنين من فاصل سن واسع ، وقدر أن التلميذ حين يكبر سيكون صورة لديان لا تنقصها إلا العصابة السوداء على عينه اليسرى . وقبل رأس التلميذ ثالث قبلة ، وكان قد عاوده قدر معقول من الهدوء ، وشح بكاؤه وقلت دموعه . قال : ستكون إن شاء الله أحسن تلميذ عندي .
وخاطب التلاميذ : كلكم رائعون . أشكركم . ليبيا وفلسطين وطن واحد .
والتقط قطعة طباشير ، وقال : اكتب يا علي ! أريد أن أرى شطارتك .
فأخذ على الطبشورة ، واقترب من اللوح ، وسأل في بقية من صوته الباكي ، وهو يمسح عينه اليمنى بباطن إبهامه : ماذا أكتب ؟
_ ديان قاتل مجرم .
وفاجأه حسن خطه وتأنقه وصحة كتابته حتى إنه شكل الكلمات بنفسه تشكيلا إعرابيا صحيحا .
فقال : ممتاز يا علي .
ورفع أكثر من تلميذ إصبعه يريد أن يكتب ، فنادى واحدا ، وقال : اكتب جملة من عندك ! أي جملة تحبها .
وطلب من علي العودة إلى مقعده حافا له بكلمات الإعجاب .
كتب التلميذ : سنحرر فلسطين قريبا إن شاء الله .
وبدا خطه زائدا في حسنه وتأنقه على خط علي ، فتعجب المدرس : كيف يزدهر هذا المستوى في هذا المكان المقفر المنعزل ؟!
وامتدح التلميذ . وزاد عدد رافعي أصابعهم للكتابة . قال المعلم : خطوطكم جميلة ، وكتابتكم صحيحة .
فتدخل تلميذ : علي والفيتوري ( التلميذ الآخر ) درسا في القرآنية ( اسم الكتاب في ليبيا ) يا شيخ .
وحسب المدرس الأمر انتهى . تلت الاستراحة حصته في الصف ، وفي منتصف الاستراحة استدعاه المدير ، وسأله مبتسما : ماذا حدث في الأول الإعدادي " ب" يا شيخ رزق الله !
إذن بلغه ما حدث . بهذه السرعة ؟!
وبعد أن استمع المدير إلى روايته التي تخللها ثناؤه المندهش على وعي التلاميذ وحسهم القومي ، ابتسم المدير ، وقال : سترى أكثر مع الأيام . لك ثالث يوم في المدرسة .
فقال رزق الله : كنت أعلم حدة شعور الليبيين القومي . هذا معروف . الأخ معمر جمرة قومية متقدة . الذي فاجأني أن يكون الناس في هذه القرية على هذا الوعي القومي . أولاد صغار .
وفي سنة ، علم رزق الله أن علي التحق بالجيش ، وأنه نقل إلى بنغازي .
***
قلب المدرس القديم رزق الله تلك الصفحات حين هاتفه ، منذ أيام ، زميله في المدرسة وصديقه إدريس أحد أبناء القرية الذي لم ينقطع تواصله معه بعد عودته إلى غزة ، وأخبره نبأ مقتل علي غومه في بنغازي . وفي لحظة من تصفحه الصامت الحزين لتلك الأحداث الغاربة في ظلمة الماضي ؛ أحس خطي دمع ينهملان على خديه اللذين أذبلتهما السنون ، فحدث نفسه : أبكيتني يا علي مثلما أبكيتك .
وتنهد ماسحا دمعه بباطن إبهامه ، وأضاف : ما أوسع الفرق بين السببين !
وسوم: العدد 628