عناد بعناد
عيوننا تتجه إلى الشمال بين وقت وآخر . متى يأتي زميلنا الذي وسطناه لدى إدارة المدرسة لتعفو عنا . كنا سبعة تلاميذ من نفس المنطقة الريفية ، ومن ثلاثة مستويات دراسية في الإعدادية : الأول ، والثاني ، والثالث . تخلفنا في اختبار الفصل الأول . هذا في مادة ، وهذا في اثنتين ، وأعلانا تخلفا كان في ثلاث مواد . رجعنا إلى المدرسة بعد إجازة الربيع دون أن نحضر أولياء أمورنا مثلما أمرت المدرسة ، فطردتنا حتى إحضارهم . أكثرنا قطع الإنذار المرسل معه إلى ولي أمره ، ومن أوصل إنذاره رفض ولي أمره الذهاب إلى المدرسة . وكل أولياء الأمور في منطقتنا في ستينات القرن الماضي كانوا أميين ، يرون المدرسة مسئولة عن كل ما له صلة بمستوى أولادهم التعليمي . فلتعاقب من تخلف في الاختبار بما تراه ملائما لتقويمه وزيادة اجتهاده ! ولحب مدير المدرسة ومدرسيها لابن منطقتنا كايد لتفوقه الدراسي وحسن أخلاقه على يتمه من الأبوين وفقره ؛ وسطناه لدى المدير ليعفو عنا ويعيدنا إلى المدرسة بعد مضي أربعة أيام على طردنا . وفي نظرة من أحدنا إلى الشمال ، رأى كايد قادما صحبة تلميذ آخر من أولاد المنطقة . واستعر الجدل بيننا في النتيجة التي عاد بها .بعضنا استبعد توفيق مسعاه لصرامة مدير المدرسة وتشدده ، وبعضنا توقع توفيقه لثقته في حب المدير واحترامه له . ومع اقترابه زادت نبضات قلوبنا سرعة وسخونة ، وشح كلامنا ، واكتفينا بالنظر إلى وجوه بعضنا بعضا منقبين فيها عما يؤمل ويطمئن . ولما صار الاثنان في مرمى الصوت ، وقف عادل زميل كايد في الصف الثالث ، وهتف : بشر يا كايدهم !
فلم يرد ، فانتهبنا القلق ، ورمقنا عادلٌ في خيبة ملموحة يغالبها أمل واهٍ .
وقعد ، واقترب الاثنان . سددنا نظراتنا إلى وجه كايد القمحي الجانح إلى السمرة لنقرأ فيه ثمرة مسعاه . بدا لا يبشر بفرحة . وبعد تحيتنا قال : لو سمحتم . دقيقة يا عادل !
وانتحى الاثنان جوار أثلة في جانب الوادي الذي نجلس فيه . وبعد دقائق رجع عادل متوتر الوجه ، وقال : لا رجاء في هذا المدير الظالم . أعرف كيف أداويه .ليعد كل واحد إلى بيته ! أبي لا يدري بطردي .
وقال أكثر من واحد إن أباه مثل أبي عادل جهلا بطرده من المدرسة ، والجميع يعودون إلى بيوتهم في الوقت المألوف للعودة من المدرسة ، فيبدون غير مطرودين . سليم هو الوحيد الذي قال إن أباه عرف أنه مطرود ، ولم يسأله بعدئذ ماذا تم في أمره .
استفهمت عادل : كيف ستداوي عثمان ؟!
فاجتزأ رادا : سترون .
وتلاقينا اليوم الثاني في نفس المكان ، وتطلعنا إليه انتظارا لإفصاحه عن دوائه السري الفعال لمدير المدرسة عثمان ، ولبث صامتا ، فسألته : أين الدواء ؟
فأخذني من يدي إلى الأثلة ، وهمس : ترى تلك البيارة ؟
وأشار جنوبا ، ففهمت قصده واضحا ، وزاده هو توضيحا وتحديد ، حين قال : سنسرق منها برتقالا . وتعرف النتيجة . ما رأيك ؟
أجبته دون تردد : لن أشترك في السرقة .
_ سيشترك غيرك .
سرقة البرتقال في ذلك الزمن كانت سلوكا نادرا منكرا لنفاسة البرتقال الذي يوصف بالذهب الأصفر ، ومن يملك بيارة برتقال ينظر إليه باعتباره غنيا .
عدنا إلى البقية الذين استقبلونا بعيون مستفهمة مستوضحة عما دار بينا .
وهمس أحدهم لجاره : ماذا قرر الأعور ؟
قاصدا عادل الذي كان في عينه اليمنى عور خفيف .
قعدت ولبث هو واقفا . قال : سأعرض عليكم الرأي . سنسرق برتقالا من تلك البيارة .
والتفت وأشار إليها .
سأله زكريا : ما علاقة السرقة بمشكلتنا ؟ تزيد ذنبنا ذنبا جديدا . البرتقال ليس تينا أو عنبا يمكن التسامح عند سرقته .
_ ستعرف العلاقة . سنجبر عثمان على إعادتنا . من يسرق معي ؟
وتفحصوا وجوه بعضهم ، وتبعه في خطته اثنان . واندفع ثلاثتهم ركضا صوب البيارة . وبعد ربع ساعة رأينا الناطور الأسود وراءهم . وهيهات يلحق بهم ! شيخ هزيل ضعيف دائم السعال جاز ستينات عمره . قدم إلينا لاهثا . سأل : تعرفونهم يا أولاد ؟
أجابه أكثر من صوت : كيف نعرفهم ؟!
_ من أولاد مدرسة البحر ؟
يقصد المدرسة الواقعة شرقي جرف البحر .
قال سليم : ممكن ياحاج . اذهب إليها ! سيموتهم المدير .
_ سأشكوهم إليه .
وسار مهتزا إلى المدرسة التي تبعد عن مجلسنا نصف كيلومتر .
وبعد ساعتين تقريبا رأينا كايد مقبلا مع تلميذين . كانا عادل وأكرم أحد التلميذين اللذين شاركاه السرقة . أين محمود
؟ لابد أنهما قابلا كايد في جزء من الطريق . حتى إذا صاروا على مسمع الصوت هتف عادل بصوته الخشن المرح : أبشروا وافق عثمان على عودتكم !
ولما بلغونا أخبرنا كايد أن المدير استدعاه إلى غرفته ، فوجد عنده عواد ناطور البيارة ، وأعلمه بسماحه لنا بالعودة ، وذكر أنه سمعه يقول للمعلمين الجالسين في غرفته : إذا كان ولدك مجنونا كن أنت عاقلا .
وسوم: العدد 632