في انتظار سعد

خرج كالسهم حافي القدمين، يبحث لزوجته الحامل، عن سيارة تقلهما إلى المستشفى، بدت الشوارع والأرصفة مغطاة بالسيول، ولا أثر لمخلوق أو سيارة يلوح في الأفق المدلهم، ظل كالأحمق  تحت دوي الرعد، وضوء البرق يتنقل من رصيف لرصيف ، وأحيانا يركض في كل الإتجاهات من شدة القلق، والخوف، والترقب، مع آذان الفجر لاح له ضوء سيارة من بعيد، اعترض طريقها حتى كادت أن تدهسه، بصعوبة أقنع سائقها، بحمل زوجته الحامل للمستشفى، في المقعد الخلفي جلست الزوجة تتوجع ، وتطلب من الله أن يسهل عليها، لما دلفا عبر الباب إلى باحة المستشفى وجدا ممرضا نائما على كرسي طويل بإحدى الممرات، بصعوبة أيقظوه بعد نداءات متكررة، حدق فيهما بعينين ناعستين ثم قال "الطبيبة غير موجودة غادرت قبل قليل " عليكم أن تعودوا مساء إن شئتم " وبانفعال شديد وبوجه محتقن يرد الزوج "حتى المساء ، تكون زوجتى قد ضاعت ، ومعها ابني" يرد الممرض بعد أن وقف على رجليه، وسحب علبة السجائر من جيب سرواله "هناك مستشفى آخر" تقول المرأة الحامل لزوجها بصوت خفيض منهك لا يكاد يسمع "اعطيه دور معه" تتوتر أعصاب الزوج أكثر ويحتج عليها "طالبا منها أن تصمت، تتوسل إليه من جديد قائلة "افعل ما أقوله لك " الرجل ولتعلقه بزوجته ، وشوقه إلى ابنه الذي سوف يحمل اسمه، دفع بيده إلى جيبه ، أخرج محفظة النقود وبدأ في العد، أعطى للممرض منها مبلغامن المال ، الممرض ومن غير أن يشكر الرجل ، صار في الحين سنونوا سريع الحركة والطيران، وترك الرجل يكلم نفسه قائلا "سبحان مبدل الأحوال " دخلت المولدة ، وتبعها الكل ، كيف حضروا ؟أين كانوا ؟أمر حير الرجل، وهو يقطع الممر الطويل جيئة وذهابا، ويضرب كفا بكف ، وجعله يحدث نفسه بحسرة وألم قائلا "زمن المال وأولاد الحرام ، كل شيء فسد، كل شيء انحل.."ثم انزوى في ركن مظلم وشرع في التدخين.

حقنتها المولدة في ظهرها ، وبعدها عملت على مساعدتها على وضع مولودها ، هي تدفع والمولود يعاند، والزوجة تصرخ بصوت يصيب جسد الرجل بالقشعريرة، يرتعش حتى تصطك أسنانه، يضم معطفه الطويل على صدره، ويعود للمشي في الممر الضيق، يضع أذنه على الباب ليسترق السمع ، يطل من زجاج النافذة في انتظار سعد السعود ، عند الظهر خرج الكل وأولهم الممرضة وقفت بجانب الرجل وبصوت خفيض متلعثم قالت له "كل محاولاتنا باءت بالفشل، تحتاج لعملية قيسرية ، والطبيبة غير موجودة ، لكن مازال هناك أمل ، صمتت لحظة، ومعه بلعت ريقها واسترجعت أنفاسها ، ومسحت بالفوطة حبات العرق عن جبينها، ثم أضافت "الجنين ربما فارق الحياة، وعليك الآن أن تسرع بنقلها إلى مستشفى العاصمة"الزوج والكلمات تهز روحه قبل عقله، كما لو أنها ريح عاتية تريد أن تقلع أوتاد خيمة منصوبة في صحراء مقفرة، يقول للجدار المقابل له "يعني سعد مات، سنين من العلاج والإنتطار، والسفر من بلد لبلد ، ومن طبيب لطبيب ، راحت هكذا ببلاش"ضرب بقبضة يده على الجدار، وبعدها ضرب برجله باب الغرفة حتى ارتج وتطاير زجاجه في الهواء ، سب الجميع سب العالم ، سب زوجته لأنها لم تسمع كلامه، عند باب المستشفى ، وبعض المارة والمرضى يتلصصون عليه ، لمعرفة ماالذي يجري، قال له سائق سيارة الإسعاف المجموع" ألف وخمس مئة درهم، وفيها ثمن البنزين وأتعابي"الزوج لم يعد له مايقول كان منهارا ولا قدرة له على جدال أحد ، يقول لنفسه أهي مستشفى حكومي أم هي للخواص؟،أهو مواطن من هذا البلد ، أم هو لاجىء، طوحت به الحروب والمجاعات إلى هذه الأرض..؟ "حمل زوجته من جديد، وانطلقت سيارة الإسعاف بسرعة جنونية، تطوي المسافات طيا ورائحة الموت تسبقها ، ظل طوال الطريق يسأل نفسه بعنف ومرارة وانكسار"لماذا يعاملوننا بهذا الشكل ؟ماالذي جرى وكيف ؟عض على نواجذه، حتى بدأالشك يدب في أوصاله من انتمائهم ، يهود حتى ولوكانوا يهود ، اليهود فيهم الرحمة على بعضهم ، صيرونا أولاد القحبة ، بلا قيمة ولا قيم ، بلا ملة ولارحمة، غير الحروب والجوع والقهر، أينما ذهبت يحلبونك كبقرة ، وفي الأخير يشعرونك بأنك شخص غير مرغوب فيه، يسترجع بحزن حواره الأخير مع أمه قبل أن يواريها الثرى، تقول له "تموت غريب ياابني في فرنسا ويدفنوك مع النصارى"فيرد عليها "هناك يا أمي حتى لو كانوا نصارى غير هنا في هذه الأرض، هناك الوقت له قيمة ، والعمل مقدس ، والإنسان له حقوق وكرامة، حتى الكلب يا أمي هناك له طبيب وكرني للعلاج وأدوية ، هنا يا أمي لا شغل ولا مشغلة ولا حقوق الكل يدخن أحلامه ، ويحترق مثل السيجارة "يسحب من علبة السجائر سيجارة أخرى ويشرع في التدخين من جديد ، ينفث الدخان من غير أن يلتفت للسائق ، أو يتحدث إليه ، يتأمل من خلف زجاج السيارة في الفضاء الممطر، تمر الأشجار، والبنايات ، والسيارات بلا ملامح، وبلا طعم، مع آذان المغرب وجد نفسه عند باب المستشفى ، نزل بسرعة ، ساعده الحراس ، ومعهم ممرضة غاية في الحسن والأدب" بسرعة" تقول للحراس ، وللزوج ، "حالتها حرجة، حرجة جدا ، قد تموت، بسرعة أرجوكم" عند باب غرفة العمليات حاول أن يرشي الجميع، وأولهم الممرضة فرفضوا،  ردت عليه الممرضة الفاتنة،  والإبتسامة لا تفارق محياها " هذا واجب سيدي، فنحن نتقاضى أجورنا من الدولة لهذا الغرض، وفوق ذلك الطب واجب إنساني وأخلاقي، وليس مهنة فقط "كثمثال من نحاس تركته ، وأقفلت الباب"من وراء زجاج غرفة العمليات ، يراقب عن كثب مايجري بالداخل، الطبيبة بخفة ونشاط، تقول لمساعديها "بسرعة من فضلكم"الزوج عند الباب يدخن بشراهة ، وكل أطراف جسمه تهتز، يخاطب نفسه بصوت مسموع قائلا"لولا هذه البقية من أولاد الناس لضعنا، الطبيبة الطويلة الشقراء المليحة الوجه، المكتنزة الجسد، تجري العملية بقدرة سبعة رجال، لا تتوقف لا تحتج، تراقب خطوط آلة القلب، "نبض القلب جيد "تقول  "هناك أمل، بسرعة من فضلكم، هاتي الملقط الصغير، هاتي القطن ، هاتي الإبرة، ضع يدك هنا من فضلك بقوة شيئا ما، هنا .. هنا ..هنا.. امسك هذا ، رده إلى مكانه ، عقمه من جديد، دقيقة ، ويخرج للوجود" مدت يدها بسرعة البرق والتقطته ، وبصفعة واحدة على مؤخرته ، صرخ سعد معلنا احتجاجه ،  بعد أن تنفس الهواء دفعة واحدة ، بمجرد ما فتحت الطبيبة  الباب ، تسمر الزوج قبالتها ، الرجل من ابتسامتها قرأالخبر ، لكنه أراد أن يسمعه منها ، وهكذا كان قالت له "مبروك،  ألف مبروك، ولد ، يتربى في عزك " الزوج من فرحته ، سقط مغشيا عليه،  ليجد نفسه في الصباح الباكر يرقد بجانب زوجته في غرفة العناية المركزة.

وسوم: العدد 632