عبر سيناء

رآها ذابلة الوجه محمرة العينين . لا ريب في أنها أفرطت في البكاء على زوجها الذي سافر إلى الأردن . وفي نفسه استسخف بكاءها ، واستهجن قوته التي أذبلت وجهها وحمرت عينيها . ولم يمنع نفسه من التصريح برأيه فيه  : تبكين عليه وهو راجع بعد أيام !

فرمقته صامتة ، ثم سألته : ما الرواية التي في يدك ؟

_ نيتوتوشكا أو اليتيمة الحسناء .

_ بعدما تقرؤها أريد أن أقرأها .

قالت جدتهما لأميهما : ابن خالتك حزنان على حالتك .

ونهض ، وقصد جميزة متوسطة السن في حِجر كثيب ألف القراءة في ظلها ضحى وأصيلا . وأصيلا يختلط ظلها مع ظل الكثيب . فتح الرواية ليستأنف قراءتها ، ففاجأه عزوف نفسه عن متابعة القراءة ، فأغلقها وانصرف للتفكير في عبد المعطي زوج ابنة خالته الذي سافر إلى الأردن . بعد حرب 1967 سافر كثيرون من غزة إلى الأردن . بعضهم عاد إليها ، وبعضهم بقي في الأردن . ربما تخاف أن يبقى زوجها هناك . وأسباب بقائه تعادل أسباب عودته ، وقد تزيد عليها . هو جندي في جيش التحرير الفلسطيني ، ويمكن أن ينضم للمقاومة الفلسطينية التي اتخذت قواعد لها في الأردن بعد حرب  1967  ، ويمكن أن يسافر من الأردن إلى مصر للالتحاق بقوات جيش التحرير الموجودة فيها . لعله ظلم ابنة خالته حين حسبها مغالية في بكائها على زوجها . وانساب إلى تذكر جلسات عبد المعطي في ظل الجميزة  مع صديقين له في جيش التحرير . أكيد أنهما لن يأتيا اليوم بعد سفره الذي لابد أنهما علماه . وقد يكونان سافرا معه . لا يمكن أن يجزم برأي . ربما يأتيان  أصيل اليوم الثاني للتمتع بظل الجميزة في حر مطلع الخريف  . ولم يأتيا اليوم الثاني ، فقوي  اقتناع صابر  باحتمال سفرهما مع عبد المعطي . وبعد أسبوع صار اقتناعه المتردد يقينا . وتضاعفت شفقته على ابنة خالته التي لم ينقض على زواجها سوى نصف عام . ومضى أسبوعان ولم يعد عبد المعطي ، ولا أتى أي من صاحبيه . وصار صابر يجتنب رؤية ابنة خالته ، وإذا لقيها صدفة في بيت الجدة تلافى النظر إلى وجهها . وقبل سفرة عبد المعطي بشهر تقريبا قدم رجل من سيناء في الكثيرين من السيناويين الذين قدموا إلى غزة  للعيش فيها بعد احتلالها واحتلال سيناء ، وبعضهم تجنس فلسطينيا ، وظل في غزة حتى الآن . نصب الرجل بيته المصنوع من أكياس الجوت في أرض حصد زرعها قبيل الحرب ، قريبا من خروبة وحيدة . وأخذت ابنته  البادية في سنتها الثانية أو الثالثة عشرة ترعى في الأرض المحصودة قطيعا صغيرا ، خمسة رؤوس ، من المعيز الأسود الضئيل الحجم البين العُجفة . وتعرف الرجل على عبد المعطي وصديقيه وصابر ، وصار في أحيان قليلة  يجالسهم في ظل الجميزة . مر صابر عصرا بالصبية ، وسألها عن حاله ،

فأجابته وظهرها إليه : ذهب ليزور أعمامي .

_ في سيناء ؟

_ في المساعيد .

في المساعيد ، يعني في سيناء .

والتقى بعد حديثه مع الصبية بابنة خالته  قادمة من بيت جارتها أم عبدالقادر على رأسها طبق خبز .

من عادة الجارات أن  أن يخبزن في فرن واحد توفيرا للحطب . أخبرها بسفر جارهم السيناوى ، وكاد يشك في أنه لمح ابتسامة اختفت سريعا من وجهها .

قال مازحا : كل الناس سافرت إلا أنا .

فسألته : لماذا تسافر ؟

_ لأكمل دراستي الجامعية .

وكان عاد إلى غزة قبل الحرب بأيام بعد امتحانه  في السنة الثانية بقسم التاريخ في جامعة عين شمس .

قبل الحرب _ التي محت مظاهر حياة كاملة_ بيوم واحد ، اشترى صابر مذياع ترانزستور أسود ليتابع عليه الأخبار المنذرة بالحرب بين لحظة وتاليتها . وكبرت أهمية المذياع بعد الاحتلال وتوقف وصول الصحف العربية إلى غزة . واعتاد صابر مثل كثيرين الاستماع في المساء لرسائل الذين تشردوا والذين نزحوا بعد الهزيمة النكراء ؛ في " صوت العرب " .

ومساء اليوم الذي التقى فيه ابنة خالته عائدة بخبزها ، فاجأه صوت عبد المعطي يسلم على زوجته وعلى أهله وعليه أيضا ، فأسرع إليها . وجدها عند جدته ، وكلهم جيران ، وأخبرها مقاوما دموعه بأن عبد المعطي في مصر ، وأنه يسلم عليها ، ويقول لها إن اللقاء قريب إن شاء الله ، فانفجرت تبكي . ولما سكنت قليلا أخبرته أن عبد المعطي سافر مع صديقيه اللذين كانا يجلسان معه في ظل الجميزة وثلاثة جنود آخرين ، عبر سيناء  ، وأن أبا سلمي السيناوي  كان دليلهم في سفرهم  المهدد بخطورة اكتشافهم من الجيش الإسرائيلي  في سيناء.

وسوم: العدد 633