انطلاقاً من دمشق
لم تكن المرة الأولى التي أمتطي فيها الجوَّ باتجاه الولايات المتحدة ، ولكنها المرة الأولى التي أتوجه إليها انطلاقاً من الوطن ، ففي تلك المرة البعيدة سافرت إليها آن كنت في باريس ، ومنها سافرت إلى نيويورك ، واليوم أسافر من دمشق ، أول عاصمة في تاريخ الحضارة العربية ، إلى .. لوس أنجلوس ، التي يُشابه مناخها نظيره الذي به تتمتع ديارنا الشامية .
تستغرق رحلتي أربعاً وعشرين ساعة ، لست أخشى فيها من التحليق في الأجواء العالية ـ وأنا رجل شديد الاستسلام لقدره ـ ولكن يُتعبني تطاول الجلوس في كرسي الطائرة ، في المرحلة الثانية من هذه الرحلة ، مدة إحدى عشرة ساعة متواصلة .
وقد أصبحت ، في سنّي هذه ، أعاني من متاعب الجلوس المديد ، فجريت على أن أقطعه ، وأنا في بيتي ، بكثرة التحرك والتنقل .. والآن ، في انحشاري في كرسي الطائرة ، كيف أغادره ، وفي أي الأرجاء أتنقل ؟
بدا ابني " فراس " أكثر منّي سعادة بالسفر . فهذه الرحلة هي عندي زيارة لبعض الأهل محدودة الزمن ، وهي عنده أملٌ مفتوح على مستقبل يَعد بأشياء غير محدودة . وقد عرفنا ، في زمننا المتأخر هذا ، مدى السحر الذي ينتاب شبابنا ، من أن تلك البلاد الجديدة تقدم لهم المنّ والسلوى ، والجمال أيضاً . وأحسب أنّ بُعد المسافة يعمل على تجميل الوعود وتهويل الآمال ، يزيد من ذلك المعاناة من تهميش الإنسان في أوطاننا الحبيبة ، وغياب العدالة الاجتماعية ، واحتكار النفوذ والثروات من قبل قلّة من الناس قد انفتحت شهيتهم في هذا المجال ، وليس ما يدل على أنها تنوي أن تنسدّ !
مرّ بي ، في ساعة متأخرة من الليل ، ابني مصطحباً أفراد الأسرة كباراً وصغاراً ، محتشدين في سيارتين ، منهم من ظهر الفرح على وجهه ومنهم من كمد ، ثم أخذت السياراتان تنهبان الطريق إلى مطار دمشق الدولي .
كان قد شغلني ، في الأيام الماضية ، إعداد حوار ، حرصت إحدى الإعلاميات النشيطات على أن تُجريه معي ، كان بعضه شفوياً وبعضه الآخر خطياً ، وقد سهرت في صوغه وإحكام الإجابات فيه ، بعد وعدٍ من الإعلامية بأن ينزل الحوار في إحدى الصحف اليومية مع ما يتخلله من جرأة في انتقاد ما يجري على السطح أو يدور وراء الكواليس ، في الوسط الثقافي ، وخاصة ما يتعلق بي شخصياً ، وقد تمت كتابة الحوار على الكمبيوتر ، وطبع ودقق مرتين ، ومع ما بُذل من جهد في إعداده ، واعتداد صاحبته بما أنجزت ، أحببت أن أهتف إليها ونحن في الطريق إلى المطار ، في هذا الوقت المتأخر (قبيل منتصف الليل) ، لأشكرها على ما بذلت وأهنئها على ما أنجزت ، وأقول لها إني أردت أن يكون صوتها الإعلامي آخر ما أسمع من أصوات أصدقائي الأدباء وأنا في طريقي إلى هذا السفر النائي .
نقلنا أمتعتنا من السيارة إلى العربة ، ثم وقفنا مع الأسرة نتجاذب أطراف الحديث .
الصغيرتان " زين " و" نايا " تلعبان وتمرحان في بهو المطار ، غير واعيتين أن معانقة الأب في منتصف هذه الليلة ، لن تتجدد في الغد التالي ولا في المستقبل المنظور . ثم كان عناق ودموع . ودخلنا لمتابعة إجراءات السفر ، إلى حيث لا يمكننا الخروج إلا إلى باب الطائرة رأساً .
ومطارنا ، " مطار دمشق الدولي " ، يمتاز بجمال المنظر ورقيّ المخبر ، لدى المغادرة وعند الاستقبال ، يقوم بخدمته أناس لطفاء ، يستقبلونك بالترحيب ويودعونك بالبسمات ، إلا إذا احمرّت العين أو جاشت النفس ، وبعد أن مُرِّر متاعنا تحت الأشعة ، ثم وُزن ودفع إلى " البساط المتحرك " ليسبقنا إلى بطن الطائرة ، صعدنا في المطار إلى الطابق العلويّ ، حيث زرنا " السوق الحرّة " ، فاشترى ابني ـ الذي لمّا تُكرمه الأيام بعدُ بالنجاة من التدخين ـ مقادير من السكائر ، ما يراه " مؤونة " له وهدايا لمن ينتظرنا في لوس أنجلوس .
ممّا أحبّ أن أتوقف عنده قليلاً ، أنه تبيّن لهم ، في التفتيش الأخير قبيل دخولنا " البوابة " ، وتبين لي أيضاً ، أني أودعت " أدوات الحلاقة " في الحقيبة السوداء التي أحملها بيدي . وقد بدا أن هذا أصبح ـ في الزمن الأخير ـ من الممنوعات . ولكن أين نذهب بهذه الأشياء ومتاعنا سبقنا إلى الطائرة ؟ وكان الحلّ بعد استئذان مضيفي الطائرة ، أن توضع هذه الأدوات في كيس صغير خاص يُحتفظ به عند المضيفين الذين يسلوننا إياه في آخر الرحلة .
بعد دخولنا الطائرة ، وقد تجاوزنا منتصف الليل ، هتف ابني ـ بالخلويّ الذي " يتسلح " به ـ إلى زوجته ، فعلم أن طفلته زين ، بنت السابعة ، والتي نجحت الأولى إلى الصف الثاني في مدرسة " الأعراف " النموذجية في ضاحية " دمّر " ، لحظة دخلت بهم السيارة في طريق العودة أول الضاحية ، انفجرت بالبكاء : أدركت الطفلة ، في هذه اللحظة ، أنه لن يكون هناك اللقاء اليومي المعتاد بينها وبين الأب .
اتخذنا موضعنا في الطائرةklm في رحلتنا الـ 601 . كل شيء على ما يرام . أمامنا ساعات خمس تقطعها الطائرة الـ " إيرباص " ذات الطابقين ما بين دمشق والعاصمة الهولندية ، استرحنا أنا وولدي ، يرجع كلّ منّا أحلامه : يستحضر هو حلمه بالعمل والكسب المادي وبناء الأسرة ، وأحلم بالكتابة ، وبالربح المعنوي ، أعني : الإسهام في بناء أدب أمتي المعاصر ، ولو بلبنة صغيرة .
ترك ابني الوطن إلى المغترب ، على أن تتبعه أسرته حسب ظروف العمل ، وقوانين الهجرة الأميركية المطبّق منها وما قد يستجد .
وتركت بيتي ، ومكتبتي الخاصة ، ودار النشر التي أسستها منذ سنوات أقدم عبرها أعمالي ، هجرت الحديقة ، وأشجار الكبّاد والنّرنج وشجيرات الورد والياسمين والعسلة (العراتلية) ، وأصص الزريعة ، التي أسقيها بيديّ ، وأحياناً أسمعها الموسيقا والأغاني كي تنتعش وتزكو ، وهل أعترف بأني أغني لها ، بصوتي ، الأغاني الشّامية كي تطرب ! حرمت نفسي الاستمتاع بغناء ذلك الشحرور الأسود ذي المنقار البرتقالي اللون ، الذي حلّ في هذا الصيف عينه ضيفاً على حديقتي ، خلّفت ورائي البركة ونافورتها التي تغني ، فأسمع غناءها أنغاماً تتساقط على سطح الماء ، حين أكون في الحديقة أكتب سويعات الصباح ، وعند الغروب ، وفي منتصف الليل ، وساعة الفجر ، مستجيباً للوحي والإلهام .
ظلّت ابنتي وزوجها يُلحان عليّ في الزيارة ، حرّضاني تحريضاً حتى اندفعت إلى طلب التأشيرة ، فلمّا حظيت بها كان تأثير الإلحاح قد فتر عندي ، فدسّا عليّ ابني ، الذي تهيّأ للسفر وهيّأني .. غداً ، هل يتاح لي أن أواصل الكتابة في لوس أنجلوس ؟
في السابعة صباحاً حسب توقيت دمشق ، حطّت بنا الطائرة في العاصمة أمستردام ، التي تتأخر في دورة الفلك ستين دقيقة عمّا هو في دمشق . تلقّانا في المطار مطرٌ خفيف ، نزلنا دون إجراءات معقدة ، وتعين علينا أن نغسل ، في هذا الصباح وجوهنا ونسوّك أسناننا ، لنزيل شيئاً مما علق بنا من وعثاء السفر ، ولم نكن نحسّ جوعاً ، بعد تلك الوجبة الخفيفة التي قُدمت لنا في الطائرة ، فاشتهينا شرب فنجان " قهوة اكسبريس " على الرّيق ، في مقهى في المطار صادفناه دفعنا فيه مبلغاً ، وجلسنا على كرسيين عاليين ، نطل من وراء الزجاج مضطرين على خلفية للمطار فيها منشآت وآليات تتحرك ، ولم يكن هذا بالمنظر الخلاب .
كان علينا أن نقضي في هذا المطار ساعات خمساً كوامل ، فقمنا نتجول فيما يلينا من الأماكن ، ونتعرف ، رأينا الردهات ، التي يُفضي بعضها إلى بعض ، طويلة طويلة ، حتى إنها لتمشي فيها سيارات على الكهرباء ، تتسع لراكب بجوار السائق ولاثنين آخرين يجلسان خلفه متجهين إلى خلف ، وكان يتوسط هذه الردهات الطويلة دروب متحركة تمضي بالواقف عليها ، أو الماشي ، إلى حيث يريد ذهاباً وإياباً .
ابني المغرم بالخلوي يستفيد منه حتى وهو خارج الحدود ، هتف إلى الأسرة ، مبلغاً إياهم أنّا نزلنا أمستردام ، وأن ما بقي لنا للإقلاع باتجاه الغرب ، ساعاتٌ أربع ، ثلاث ، اثنتان ... فكأنه يتسلى .
عندما تجمعنا ، نحن المسافرون إلى لوس أنجلوس ، عند البوابة 20 ، أوقفونا في صفين ، أحدهما لركاب الدرجة الأولى . ولحظة نظر رجل الأمن في جوازَي السفر الخاصيّن بنا ، أشار إلى ابني أن يتوجه إلى ذلك الموظف الذي هناك ، الواقف وراء جهازه مترقِّباً . ولما كنّا ـ نحن العرب ـ قد بتنا أمة مشكوكاً في نوايا أبنائها نحو الولايات المتحدة فإنّ كل مواطن منا أصبح يخشى الوقوع في " القبضة " ، وعندئذ لن يسهل الفكاك منها ولا التعرف على الأسباب ! وبدلاً من أن أنصرف باهتمامي إلى الموظف الذي يتصفح جواز سفري ، أخذت أرقب ابني ، وهو بين يدي ذلك الموظف ، خائفاً عليه من شر خفيّ . والذي كان أن الموظف مرّر بطاقة الإقامة (green carde) في جهازه . ولم أستطع أن أستقرئ ملامحه الجامدة ما إذا كان الأمر قد تمّ على خير .. إلا بعد لحظات خلتها دهراً .
ومع أنه كان قد تمّ تفتيشنا في مطار دمشق على نحو ما ينبغي ، إلا أنهم بدوا هنا غير واثقين من ذلك التفتيش ، الذي جرى في بلد ينظرون إليه على أنه " غير مأمون " فمرروا أجسامنا تحت الأشعة ، ولسنا نشك في أنهم عرّضوا حقائبنا هناك ـ دون أن نعلم ـ على الأشعة أيضاً ليتأكدوا !
وحدثت لنا ، بعد أن أذن لنا بالتحرّك ، أنهم ـ لدى دخولنا " النفق " المفضي إلى باب الطائرة ـ نحونا أنا وولدي جانباً ، ووجهونا إلى نفق ثان إلى اليمين ، دون سائر الركاب الذين اتفق لنا أن رأيناهم يتابعون المسير في النفق الأول ، واستجبنا . ولم نره ، هذا النفق الذي سرنا فيه ، يقود إلى باب الطائرة في خطّ مستقيم ، بل مضى بنا في اتجاه منحرف أكثر فأكثر نحو اليمين ، لاح لنا في نهايته باب مغلق ، قلنا : أولئك هم عزلونا عن الركاب ، حتى يقذفوا بنا من هذا الباب إلى أرض المطار ، ثم يرحلونا إلى بلادنا ! وضحكنا ، قبل أن نرى عند هذا الباب منعطفاً نحو اليسار ، ومنه رأينا باباً آخر للدخول إلى الطائرة : لله درّهم ! لقد أرادوا أن ندخلها من بابها الخلفي ! واستقبلتنا المضيفة الهولندية باسمةً ، آخذةً بيدنا إلى مقاعدنا ، فحمدنا الله على السلامة !
لاحظ ابني ، أكثر ممّا لاحظت ، أن ركاب الطائرة هم من المسنين الطاعنين وأغلبهم من النسوة العجائز ، فبدوا لنا وكأنهم سُيّاح أمريكيون عائدون بعد زيارة إلى أوروبة ، أو لعلهم سياح أوروبيون يقومون بزيارة إلى لوس أنجلوس ، أنهم خليط من هذين الفريقين .
تبادلنا الحديث أنا وابني : يتحدث هو عن آماله ، وأتحدث عمّا وعدت أصدقائي من أني إن انسكب علي الوحي والإلهام وأنا في المغترب أطلت الإقامة ، وإلا حزمت حقائبي وعدت إليهم مسرعاً .
أحديثٌ عن العودة ونحن نستعد للإقلاع ؟ وابني يهتف إلى " الحبايب " في لوس أنجلوس :
ـ نحن داخل الطائرة ، ننتظر الإيعاز بشدّ الأحزمة . نقلع في الحادية عشرة حسب التوقيت هنا ، ونصل إليكم ، بإذن الله ، بعد إحدى عشرة ساعة .
وحدثت النفس بأننا نغادر هنا في ساعة ما ، ونصل هناك في الساعة ذاتها .. كيف ؟ فكأنّ الزمن تجمد خلال هذه الساعات الإحدى عشرة ، وعقارب الساعة تسمرّت ، فما خسرنا شيئاً من ساعات هذا اليوم !
وابني ـ المولع بالاستفادة من تقنيات العصر ـ يتصل بدمشق :
ـ نحن داخل الطائرة ، ننتظر .. نقلع .. نصل بإذن الله ..
كنت أعرف أني سأضيق ذرعاً بالجلوس في هذا الكرسي الضيّق ، وأني لن أتحمل ذلك أكثر من ساعتين أو ثلاث . فقمت أمشي في ممر الطائرة ، وهي تحلق في فضاء الأطلسي . وبدا أني كنت ، في ذا ، أول من توجعّت جنوبهم فقام يمشي . وخيّل إلي أن العيون تعاين ـ مع أنّ الغربيين لا يتقنون فنّ " الفضول " ـ هذا " الشيخ " ، الذي ابيض شعره وغزا الشيب لحيته الصغيرة ولما يأت عليها كلها . وبعد أن تقضّت ساعة وأخرى ، كان سواي من الركاب ينهضون . واشتدت الحركة بعد تقديم وجبة الطعام ، وكثر من يقف منتظراً في صمت على مقربة من تلك المثابة الصغيرة .
في حديثنا أنا وابني ، حديثاً يقارب الهمس ، أتينا على ذكر مخاوف بعض الحكام في العالم من " القاعدة " و" ابن لادن " ، متحاشين أن ترد إحدى هاتين الكلمتين على لسانينا . ولكن وردت لفظة منهما مرة ... كان جارنا في مقعده غافياً ، فخُيّل إلينا أن عينيه انفتحتا ، فضحكنا بصمت ، وما كان لنا أن نضحك ، ولا أن ترد اللفظة على لسان ، فإن الأمر لأشد خطورة !
كان الحديث يمتد ، ويتراخى ، ويعمّ صمتٌ تتخلله غفوات ، ثم أقوم أمشي .
امرأة نصف ترنو إليّ ، قبل أن تبادر إلى مخاطبتي بالإنكليزية ، التي فهمت منها ـ وأنا لا أتكلمها ـ إنها تسألني عمّا إذا كنت إيطالياً ؟ فسألتها بالفرنسية أبغي محادثتها ، عمّا إذا كانت تتكلم بالفرنسية ؟ فأجابت بالنفي ، ثم أمسكت عن الكلام ، فالحوار بيننا سيكون كحوار الطرشان . وابني ، الذي لم يكن غافياً ، سألني : ما تريد هذه المرأة منك ؟
أُعلمنا أننا دخلنا سماء الولايات المتحدة ، وأننا الآن فوق نيويورك ، متابعين الطريق نحو الجنوب الغربي ، ولاية كاليفورنيا . والأمر المفارق أن عتمة ليل لم تهبط علينا طوال رحلتنا المديدة ، فكأننا نقطع من الوقت بمقدار ما تقطع الشمس ، أو ما تقطعه الأرض في دورانها !
***
ونزلنا في مطار لوس أنجلوس الدولي . غادرنا الطائرة ، تحدونا الأشواق إلى لقاء ابنتي وزوجها المقيمين المتجنسين ، ولقاء هذه الحفيدة (المقيمة في ولاية فلوريدا) والحفيدة الأخرى (في ولاية ميتشيغن) ، وغيرهما من أبناء الجيل الثالث الذين توزعوا في أنحاء ولايات هذه الدولة العظيمة ، في زمن أصبح حلم كثير من الشبّان في العالم أن يرحلوا إلى حيث العمل المتاح والحرية المنشودة ، كما تصورهما لهم أحلامهم المنمقة . بالنسبة إلى كانت " الهجرة " قد أتيحت لي من قبل وملكت أوراقها ، ولكني ما أعملتها ، فقد ظلت أعتقد أن جلسة في حديقة بيتي ، أتناول فيه كأس ماء ، قد امتلأت من حبات كاللؤلؤ تتساقط عليها من النافورة .. هذه الكأس عندي أثمن من أي كأس ماء أتناولها في أي مكان في العالم . واليوم آتي هذه البلاد بتأشيرة زيارة .
أدخلونا ، نحن ركاب الطائرة من الأجانب ، إلى ردهة ، قد جلس ثلاثة أو أربعة من رجال الأمن ـ الذين صورَّتهم خيالاتنا لنا عتاة ـ كلٌ في مثابته الزجاجية .
وكان نصيبنا واحداً منهم ، ذلك السمين الطبّوش ، الطيّوب ، المتخفية عيناه وراء نظارة سوداء .
تقدّم إليه ابني فراس بأوراقه وبطاقة الإقامة ، فلم يلق عليه من الأسئلة إلا أقلها ، وختم له جواز السفر ، ألم نقل أنه طيوب ! وبالنسبة إليّ ، فلأنني أدخل البلاد زائراً ، فينبغي أن تستوفى في شأني معلومات خاصة ، فترك الرجل مثابته ، ولحقنا به إلى من تسلم منه جواز سفري .
كان هذا الأمنيّ الأخير ، في مثابته ، أسمر اللون ، قرأت اسمه على صدره ـ janaqua إن لم تخنّي الذاكرة . وبدا لنا لطيفاً ، في استيفائه المعلومات مني ، ومرحاً أيضاً . ومما أراد معرفته المدة التي قضيتها وأنا في عنواني الحالي في وطني ، ولم يستغرب كثيراً إجابتي له بأني الابن الأول لأبي الذي أنجب تسعة عشر من البنين والبنات ، فقد بدا أنه من أبناء البلاد الأصليين الذين يستسيغون الأجانب ولكنه سألني : هل أبوك أمير ؟ وضحكنا ، ودوّن ، وهو أمام الحاسوب ، لون الشعر والعينين ، والوزن .. وأما الطول ، فقد شكّ في الرقم ، فوقف حيث هو ـ وكان ربعة ـ تلقائي ليتأكد من أني أفوقه طولاً ! والتقط صورة للوجه بكاميرا منصوبة أمامه . وأخذ بصمات أصابعي العشرة تصويراً بالليزر لا طلاءً بالحبر ، ولكنه لم يصور لي " حدقة العين " وتلك أحدث " البصمات " قد اتخذوا العدّة لها في بعض المطارات .. وأخيراً وقف وقفة احترام ليطلب منّي أن أقسم على صحة ما أدليتُ من معلومات .
في حوارنا مع الأمني " جاناكوا " كان الوقت يمضي ، وفي حمل القادمون معنا أمتعتهم وذهبوا ، وتخلّفنا عنهم ، نحن الأب والابن العربيين .
سقنا الحقائب ـ التي كانت قد عزلت جانباً ـ إلى التفتيش ، الذي بدا لنا أكثر يُسراً ونحن أمام موظفة الجمارك ، هذه الممشوقة الممتلئة بعض الشيء ، الحنطيّة اللون فكأنها مولودة من أمّ شامية . وقد منحتنا الثقة ، عندما علمت أني " كاتب " فلم تطلب أن نفتح الحقائب إلا تلك التي اتفق أن فيها نسخاً من بعض مؤلّفاتي . ولكننا افتقدنا ذلك الكيس الصغير ،الذي أودعناه في دمشق عند مضيف الطائرة ، فأجابونا بأننا تأخرنا فأدخلوه " الأمانات " ، وأخذوا العنوان ، ووعدونا بأن يصل إلينا بالبريد خلال ثلاثة أيام . قلت مازحاً : وكيف أحلق ذقني صباح غد !
وعن الحبيبين المنتظرين على الباب ، أصرّ ابني ـ وللشباب أمزجتهم ـ على الإحجام عن الاتصال بهما بالهاتف العمومي المتاح لنا ، قال يريد مفاجأتهم ، ولكنهم لم يفاجؤوا ، لحظة رأونا ندفع العربة المثقلة أمامنا ، فقد كانت " سهير " و" بشار " يعرفون مسألة استيفاء المعلومات بالنسبة للزوار الجدد . ومشينا جميعاً نحو المرآب الطابقي على الجانب الآخر من الشارع .
وأخيراً .. ها نحن أولاء في لوس أنجلوس ، عاصمة ولاية كاليفورنيا ، التي قرأت في الكتب أن حبّ الأمريكيين لـ " التمر " يستوردونه بالكميّات منذ زمن من العراق والخليج ، قد جعلهم يستزرعون شجرة " النخيل " العربية في بعض المناطق من هذه الولاية ، التي شدّ ما يشابه مناخها نظيره في بلادنا حيث تكثر أشجار النخيل .
عند الساعة الثالثة ظهراً ، خرجنا من المطار ، الذي يقع في الجنوب الغربي من مركز مدينة لوس أنجلوس المعروف باسم downtown ، غير بعيد عن البحر (محيط الباسيفيك) ، منطلقين إلى الشمال الغربي منها . طرفان متباعدان في هذه المدينة الكبيرة ، بينهما " رحلة سفر " إضافية ، ولكنها رحلة الوصول إلى البيت ، يُعطّرها الفرح باللقاء ، وتزينها البهجة بسلوك هذا الطريق الرائع ، الذي يبتدئ من " طريق سان دييغو san diego" ثم مخترقاً سلسلة هضاب " سانتا مونيكا santa monica" فيما يسمى طريق الوادي " ويا له من طريق تعاونت يد الطبيعة ويد الإنسان ، على تشجيره بالظليل والسامق من الشجر ورشّه بالأزاهير مختلفة الأشكال والألوان !
آن لنا ، بعد مسرة ساعة أو نحوها كانت فيها السيارة تنهب الأرض نهباً ، أن نخرج من طريق " سان دييغو san diego" ، منعطفين يساراً نحو الحيّ ، أو الضاحية " نورث ريدج northridge" (التي سيحلو لي أن أسميها " ريدج الشمالية ") . ومن طريق فيها ممتد إلى طريق آخر يضاهيه امتداداً ، دخلنا الشارع الذي يقع فيه " بيتنا " ، ويسمى " نوردوف nordhoff" ، سألت عن طوله ؟ فأجابوا : سبعة أميال (نحو عشرة كيلو مترات) !.
مما كنا حملناه من الهدايا واللطائف ، أشرطة غناء وُصّينا عليها للمطربتين الحلبيتين ميّادة وميّادة ، وقد أسرعت يد بشار تلتقط شريط ميادة بسيليس ، فنستمع إلى تغريدها في مجموعة من الأغنيات ، جديدة أعدت لها وقديمة تستعيدها فتنعش بها ذاكرتنا الطربية ، ولكني لاحظت في إحدى قصائدها المغناة ، التي أراد ناظمها تسكين القافية ، أن ميادة تحرّكها في أحد الأبيات فتقول : " رضي القتيل وليس يرضى القاتلُ " بضمّ اللام الأخيرة ، فخدش ذلك سمعي ، فأعلنت احتجاجي بأن رفعت صوتي أغني البيت ساكن القافية ، وقلت :
ـ قد حرّكت ميّادة ، وأولى بها أن تُسكّن !
فعلّق بشار :
ـ عمّي ، لا تُدقّق ، نحن في أمريكا !
وضحكنا .
ورأيتهم يشيرون إلى مبنى نمرّ به ، صغير أنيق من طابق واحد ، قد استلقى على الأرض مرتاحاً :
ـ هذا فرع أنشئ حديثاً ، " لمكتبة لوس أنجلوس العامة " ، تستطيع ، يا أبي ، أن ترتاده كلما تنزل عليك الوحي وتاقت نفسك إلى الكتابة !
فقلت في نفسي : قد كَمُلَتْ !
وعلى " مرمى حجر " من هذه المكتبة ـ رمية يقطعها الماشي في ثلاثين دقيقة ـ كان البيت الذي يُقدر لي أن أقيم فيه أيامي الآتيات . انعطفت بنا السيارة ، فإذا نحن في الفناء الخلفيّ لمجمّع سكني ، انفتح لنا بابه الحديدي العريض بكبسة زرّ ، ولم يكن هذا الفناء ، الذي تكتنفه الأشجار المزهرة ، إلا المرآب لسيارات القاطنين .
تعاونّا على حمل أمتعتنا إلى الطابق العلويّ . ودخلنا غرفة ، تطلّ على شارع السبعة أميال ، فيها طاولة صغيرة تُطوى ، يعلوها حاسوب (كمبيوتر) وطابعة ، وإلى جوارها دفاتر صغيرة للمسوّدات وأخرى للتبييض ، وورق آخر للطباعة ، وأقلام وحبر أسود وأحمر وأخضر ، ولم ينسوا أن يضعوا تحت الطاولة " سلّة مهملات " !
وتصدّر الغرفة سرير من طابقين قد اشتري من أجلنا قبل يومين . قالوا إن في هذه الغرفة ينام الأب وابنه ! أسرع ابني يقول : أنا أنام في الطابق العلويّ ! وقلت : وأنا لا أنام إلا في الطابق السفليّ .
وفي الصالة أشاروا عليّ بأن أجلس في مقعد رحيب يكسوه الجلد . وما إن استقر جسدي فيه ، حتى شدّوا " حلقة " في جانبه ، فارتفع جزء منه تحت ساقيّ ، وإذا هما مبسوطتان إلى أمام . قالوا هذا مقعد مريح ، اشترينا أمس من " كاسكو " خاصاً بك ! قلت : أعيدوا الوضع إلى سابقه : وأعيدوا المقعد إلى بائعه .. فإني لم أرتح فيه !
بعد جنّة الكتابة والإبداع التي وُعدت بها ، أحسسنا جميعاً بالجوع ، فطُلب الغداء السريع بالهاتف ، فجاءتنا " البيتزا " العتيدة ساخنة (وسوف نرى أن كثيراً من أكلهم : بيتزا وهمبرغر!) . أكلنا ، وشكرنا المولى : على النعمة وعلى أنّا عبرنا السهول والجبال والبحار بالسلامة .
وظللنا بقية الليل ـ وقد زاد يومنا هذا ساعات عشراً ـ نتحدّث عمّا مرّ بنا خلال ساعات السفر العشرين . وكان لابدّ من أن نذكر بكاء " زين " لدى وصولها إلى دُمّر (1) .
ثم إن الإصباح تطلع ، والشموس تغيب ، وتتوالى اللقاءات ، والجولات ، والتعرّف على مناحي الحياة ، في بلد يطمح قادته إلى حكم العالم ، دون أن يؤهلهم الدهر لذلك بالحكمة يتحلّون بها ، وإن أمدهم بقوة ظنّوا أنهم بها قادرون .
حواشي :
نقل إلينا الهاتف ، بعد أيام ، حديث الأم من أن " نايا " الصغيرة (بنت السنوات الثلاث) التي اعتادت لدى استيقاظها أن ترى أباها في الصالة يشرب قهوة الصباح فتنعم بالجلوس إلى جواره ، قد استيقظت في يومها ذاك فلم تجده ، فظنّت أنه غادر البيت باكراً كما يقع له أحياناً . فاستيقظت في اليوم الذي يليه في وقت أبكر ، وخرجت تبحث عنه في الصالة ، فافتقدته أيضاً .. فعادت إلى أمها تبكي .
ثم إن البريد حمل إلينا الكُيَيْس بما حوى . وقادنا الفضول إلى أن نقرأ الطوابع ، فإذا قيمتها تعادل أضعاف ثمن عدة الحلاقة التي قبعت فيه من دمشق إلى لوس أنجلوس !.
وسوم: 639