أحزان لا تزول !؟

يحيى بشير حاج يحيى

قصة من واقع سجن تدمر

لا أدري كيف أصف لقائي بهذا الرجل! فقد عرفته منذ عشرين عاما ، ثم غاب عني إلى أن التقينا قدرا في أحد شوارع حلب التي أفد إليها كل مدة ..

نظر إلي طويلا ، ونظرت إليه ، ترددت في السلام عليه ؟‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍ فلربما كان شخصا آخر شبيها به ؟‍‍!

ولكنه قطع هذا التردد ، واندفع نحوي متعجبا وهو يقول : كأنك نسيتني ‍؟ أنا فلان الذي كان معك في دورة الرقباء الجامعيين .

صرخت من أعماقي : أهذا أنت ؟ سبحان الله ‍‍‍‍‍! لقد تغيرت كثيرا؟ ‍!

ارتسمت على شفتيه ابتسامة مرة ، وهز رأسه : نعم تغيرت كثيرا ولكن أحزاني لم تتغير ولم تتبدل . ثم أردف :ألا تحب أن تسمع قصتي ؟‍‍‍!

أجبته على استحياء : بلى ‍‍‍‍‍‍‍! ومضيت معه إلى منـزله القريب 

قلت : ماذا حدث لك ، أعرف أنك كنت معنا في الدورة ، ثم اختفيت فجأة ، ولم يجرؤ أحد على أن يسأل عنك ؟‍‍!

قال : نعم ‍! اختفيت ، أو أُخفيت اثني عشر عاما في سجن تدمر العسكري ؟! أتدري لماذا ؟

قلت : لا ‍! ولكن أعرف أن كثيرين من معارفنا وأصدقائنا قد أُخذوا ولم يعودوا ؟‍ !

قال : اُعتقلتُ وأنا عائد من إجازتي عند مدخل الثكنة .

لم يحقق معي أحد ، ولكن ضابط الأمن أَسَرَّ إلى أحد معارفه بأن تقريرا وصله عني ، ولا بد من سوقي إلى تدمر للتحقيق .

قلت : وساقوك إلى تدمر ؟‍‍‍‍‍‍!

قال لأرى الويلات ! تصورْ أنه لم يستدعني أحد ، ولم يسألني سائل ، وفي نهاية السنة الثانية عشرة استدعيتُ مع مجموعة من الموقوفين ، وأُخذنا للتحقيق أو المحاكمة في طابور طويل ‍‍!

نظر القاضي إلى ملفي ، ثم صَفَر صفرة طويلة وهو يقول : شو عم تساوي هون يا بن …..

أبوك وأبو اللي جابك لعندي ؟؟؟؟؟؟!!!!!

ثم رمى الملف في وجهي وقال وهو يقلب شفتيه بنـزق وقرف مرددا ما جاء في التقرير : حلبي … يصلي يُخشى منه في المستقبل ؟؟!

أُعدت إلى الزنزانة مرة أخرى ليُنادى عليَّ بعد شهرين تقريبا ويطلق سراحي ؟‍ !

بدا التأثر على وجهي ، وكادت الدمعة تطفر من عيني .

ركّز نظره علي وقال : أحزنك وضعي ؟!

قلت : كثيرا !

قال : كيف لو رأيتَ ما رأيتُ ؟

صمت قليلا وقال : سأذكر لك حادثتين فقط من عشرات الحوادث التي عايشتها بنفسي .

أخذت منديلا ،وتظاهرت بأني أمسح جبهتي وقلت : حدثني عن الإعدامات التي كانت تتم مرتين في الأسبوع

قال: بل كانت تتم كل يوم وكل ساعة ؟!

قلت : كيف ؟

قال : الإعدامات الأسبوعية كانت تتم في ساحة خاصة ولكن هناك إعدامات داخل الزنازين .

قلت : داخل الزنازين ؟ !

قال : نعم ، فقد كان علينا ونحن داخل الزنزانة إذا فتح الجلاد الباب أن نركض ليرتمي بعضنا فوق بعض ، ولسوء الحظ كان معنا شاب صغير السن لم يتعود هذا الأمر ، فتأخر قليلا فأمسك به الجلاد ، وأخرجه من بيننا ووضع رقبته على طرف العتبة، وما زال يعصرها بحذائه العسكري بكل ما أوتي من قوة ، إلى أن فقد المسكين الحركة ، فتركه وقد خمدت أنفاسه ‍!

انطلقنا إلى الشاب فوجدناه قد فارق الحياة ، بذلنا كل ما نعرف وما نستطيع فعله بدون فائدة !؟

انتظرنا قليلا ، ثم طرقنا الباب وقلنا : عندنا سجين مات ‍‍!

فجاء الوحش وصرخ : كيف مات؟‍!

كان الشرر يتطاير من عينيه وكأنه لم يفعل شيئا؟!

قلنا : لا ندري !

فشتمنا بألفاظه البذيئة ثم فتح الباب لإخراج الجثة .

ترقرقت دمعة صامتة في عيني ، فمسحتها بطرف ثوبي

مرت فترة من الصمت الحزين ، ثم بادرته وقلت :

والحادثة الأخرى ؟

قال : إنها لا تختلف عن الأولى ، ففي أحد أيام رمضان وقبيل الغروب فُتحت أبواب الزنازين للدخول بعد التنفس الذي كان عملية تعذيب يتفنن بها الجلادون .

كانت السياط تلاحقنا فتعثرسجين مريض ولم يستطع الدخول ، فأمسك به الجلاد ووضع رأسه بين الجدار وبين باب الزنزانة الحديدي ، وأخذ يضغط بشدة حتى سقط ميتا لا حراك فيه ثم أشار بلا مبالاة إلى اثنين منا لحمل الجثة إلى سيارة البلدية التي تنقل بها القمامة .

قلت : وهل أفطرتم ؟

قال : نعم ، ولكن على الدموع الصامتة والتأوهات الخافتة ، والدعاء الذي ينطلق إلى السماء غضا طريا !؟

قلت ، وقد أحسست أن لديه الكثير مما يؤسي النفس :حسبك ، لقد نكأت جراحا في صدري ،لا يشفيها إلا محكمة عادلة قريبة بإذن الله .

وسوم: 641