بخفي حنين
استخطأت قدومي مبكرا ! المكان خالٍ ! ولولا لوحة الاسم ( جمعية النور الخيرية ) لرجحت أنني في المكان الخطأ . هل أنا الوحيد الذي قرأ الإعلان ؟ ! الإعلان رأيته في أكثر من موضع في الشارع العام ، ولابد أنه وجد في مواضع أخرى . الإعلان يقول إن الجمعية ستوزع اليوم كتبا على من يريد . تهيمن على مدخل الجمعية شجرة زينة صفراء النوار . المكان مطمئن ومريح . دخلت . رأيت في الغرفة المقابلة للباب الخارجي رجلا وراء مكتب ، فاتجهت إليه . لحظت في غرفة على يميني رُبَط كتب وكراتين . الرجل في الثلاثين تقريبا . شعره كث مهوش
مازجه بعض شيب . قام وسلم على ، ودعاني للجلوس ، وقدم علبة كانت أمامه ، فاعتذرت بأنني لا أدخن .
سأل : متى قرأت الإعلان ؟
_ أمس .
_ تحب القراءة ؟
_ كثيرا .
_ تكتب شعرا ؟ قصة ؟
_ أقرأ وأتمتع ، لا أكثر .
_ جيد . جيد أن يقرأ الناس ويتمتعوا . المشكلة مع الذين لا يقرؤون .
_ الناس مشغولة بلقمة الخبز .
_ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان . الإنسان أعظم من أن يكون آكلا وشاربا . الإنسان روح . ثقافة . استمتاع
راقٍ بالأشياء .
_ ظروف الناس صعبة .
_ لا تبرر !
_ أفسر ولا أبرر .
_ أخوك شاعر .
_ شاعر !
_ صدر لي ديوانان حتى الآن .
_ حظ أن نقابل شاعرا .
_ ألم تسمع باسمي ؟ علي نطح .
الله وحده كتم انفجاري ضاحكا من" نطح " . قلت مصارعا قوة حافز الضحك : لم أقرأ لشخص بهذا الاسم .
سأل : تحب قصيدة النثر ؟ أنا من فرسانها في فلسطين .
_ بصراحة لا أحبها ، ولا أعدها شعرا .
_ يعني من أنصار : " مكر مفر مقبل مدبر معا " ، كِر كِر ! فِر فِر ! قصيدة النثر لها قارئ خاص .
قارئ ذو حساسية عالية . الوزن والقافية موت . جمود . ردة للخلف . الدنيا تغيرت . العالم انقلب . لماذا
نربط نفسنا بشعر الصحراء والناقة ؟ ! ماذا تشتغل ؟
_ أخطط للالتحاق بالشرطة .
_ شرطة ! ناقصنا ! ما مؤهلك ؟
_ توجيهي .
_ لماذا لا تدرس في الجامعة ؟
_ المصاريف . ما الكتب التي توزعونها ؟
_ ستراها الآن . أخي يعمل هنا . جئت بدلا منه لانشغاله في أمر . أحب أن أسمعك آخر قصائد الجالس أمامك .
_ نسمع .
وسحب من جيب جاكيته الأزرق ورقة مطبوعة ، وشرع يقرأ :
" في البحر زوارق قليلة .
في البحر أسماك كثيرة .
كيلو السمك بثلاثة عشر شيكلا .
البائعة الكركفة ترفض أن تتنازل عن شيكل .
_ توضيح لا مفر منه : عينا البائعة تشبه عيني السمكة _
عصر أمس قلت لصاحب زورق في عمر أبي : خذني في زورقك ! ألقني بين الأسماك . . . "
قاطعته ضاحكا : ألا تخاف أن يأكلك سمك القرش ؟ !
تطلع فيَ ساكنا ، وبان سروره . قال : اندمجتَ في النص ! اقتحمت مسار أفكاري !
أنت الآن تشاركني في إبداع النص . شاعر قصيدة النثر يؤمن بأن القارئ شريك في إبداع النص . اسمع الباقي :" العيش بين أسماك القرش ولا العيش بين ناس تموت في القرش .
رد الصياد العجوز : ادفع تركب ! ما عندي يا ميمتي ارحميني " .
وحين توقف حدق فيَ صامتا ، ولما لم أتكلم ، سأل : ما رأي القارئ المستمتع ؟
أجبته : رأيي قلته من الأول .
_ قم لغرفة الكتب !
أعطاني خمسة كتب دينية وأدبية . خرجت . المكان خال ٍ . نصف ساعة من الحديث ولمَا يأت أحد .
الناس معذورة . ماذا يغريها بالقراءة ؟ ! احتلال لئيم ، وفقر عميم ، وهم مقيم ، وتأتي خرابيط نطح وأصنافه لتصرفهم صرفا على صرف عن القراءة خاصة قراءة الشعر الذي علقت هرائياتهم في حلقه مثل الشوكة الصلبة
اليابسة ، فغدا ثأثآت ولجلجات مشوشة مغمضة . المطرة ندى رقيق بلل ورق شجرة الزينة ونوارها . استعذبت لمساتها الباردة في وجهي . مطرة بقية أبريل . وفوق البحر ترامت ستارة من سحب عميقة السواد تزحف مثقلة شرقا . حسن أنه وضع لي الكتب في كيس بلاستيك أبيض . شريت من السوق كرتونة بطاطا ، وركبت سيارة إلى الشارع الذي تصرف فيه قسائم المواد التموينية المعطاة إغاثة للناس في مستهل الانتفاضة الثانية . يا للهول !
يا للفرق ! الناس نمل . كتل كتل . سيارات من مختلف الأنواع . كارات مشدودة إلى حمير وخيل وبغال . زعيق ونداءات . صففت لتسليم قسيمتي . أمامي أكثر من ثمانين، ولا نذكر صف النساء الذي يعادل ثلث صف الرجال .
ألفاظ الملل وعبارات الضيق تتفجر متطايرة في الجو الماطر . زادت المطرة . انسحب شيخ . قال : لم نقبض اليوم . نقبض غدا .
زاد عدد المنسحبين . كنت زويت كرتونة البطاطا وفوقها كيس الكتب عند حائط بناية تدل أبواب دورها الأول
المغلقة على أنها محلات تنتظر المستأجرين . لا لافتات ولا أسماء . المطرة تعنف . لست أصبر ولا أصمد من الذين انسحبوا . آتي غدا أو بعد غد . انسحبت . أين الكرتونة ؟ ! يا سوء الأخلاق ! كيف استحل أحدهم سرقتها ؟ ! التقطت كيس الكتب . في البيت حكيت لأبي ما حدث . كانت أمي تسمع ساكتة وإن بدت ملامحها البيضاء الشاحبة منذرة بهبوب الانفعال . غطى أبي وجهه ، وشرع في ضحك مكتوم . قال دون أن يرفع يديه عن وجهه :
عدت بخفي حنين ؟ !
قالت أمي : نسيت ما قلته لي في ليبيا ؟ ضعي " سر " عميد في كرتونة الكتب حتى يحب الكتب .
وسوم: 642