جحور التناوم

عصام الدين محمد أحمد

يشرخ الوقت كالخشب الجاف،آن وقت الراحة ،أمنح نفسى فسحة تصفح الفيسبوك،لم أندم على شطب البوستات والتى سجلت أوان الأزمة،حواجز صلدة حالت بينى وبينها،لم أبق إلا القليل جدا منها،أقرأ البعض مترنما:

الدنيا ليل،الظلام دامس،أصيبت الشمس بوعكة؛أقعدتها فراش السنين،تفصدنا الوهن والعنت،نصرخ،تضيع صراخاتنا فى البيداء،قلنا : كرامة.قال بعضهم: تبا لكل أفاك أثيم!  يشدو من بيده الربابة:  من أين نجيب ناس لمعانى الكلام؟    يصدح صدى العزف: أنا مش حيوان؛أنا إنسان.

غادر الرجال جحور التناوم،يحملون فى صدورهم هم وحنين،يهرولون يمينا ويسارا،تطفئهم حلكة الليل البهيم،فى النفوس بركان وزلزال،يظمأون،ومشروب الكرامة بيد الشباب،الكأس فارغ إلا من نقاط،قال الحكواتى: من عرق الناس يمتلئ الكأس .

أغلقت حاسوبى،أسترجع أطياف الذكريات :

 أنتشرت بوستاتى على شتى صفحات موظفى العدلية ،بصراحة أنا من قام بالنشر، وتزايدت مشاركات الاعجاب،وتباينت التعليقات تأييدا ورفضا،وعبر الدردشة (شات)أعطيت رقم هاتفى لكل من طلبه،وفوجئت بالكثيرين  من المستشارين اتصلوا بى معربين عن قلقهم من تفاقم التوتر ومتسائلين عن حقيقة الأمر،شرحت لهم-على قدر معرفتى-أن المطالب مالية بحتة،وأوضحت أيضا أن البعض وجه إلينا الاتهامات والشتائم،للأسف أعتقدواأن هذا الأمر المفتعل منبعه جماعة الأخوان المسلمين،ومن فتح خزانات هذا التيار قصد جرف هيئة قضائية عتيدة وأظهارهم بصورة سلبية، متخيلين أن الأخوان أنفقوا الأموال الطائلة على مخرجى مسرح الشغب هذا،فى أعتقادى ان هذه الأفكار من وحى الخيال؛وهم مجرد وهم لا جذور له،أتصلت بمحامى من جماعة الأخوان يدعى رمضان: أهلا رمضان.

- أخبار المظاهرات إيه؟

- الأمور راكدة،لماذا لا تتدخلون لفض هذا الاشتباك؟

- نحن نراقب الوضع.

- ماذا تراقبون؟

- نراقب رد فعلهم ،وحينما يتخذون اجراءات قاسية سنظهر فى الصورة.

- ألا تهتمون باصلاح القضاء؟

- ليس بالمظاهرات.

- أتعنى أنكم تفضلون التفاوض؟

- الاصلاح هو المنهج.

- اعتقدت أن بعض المتظاهرين مدفوعين  من قبلكم.

- يا استاذ المهام التى على عاتقنا جسيمة،ولا تتحمل ألعاب الصغار.

- أليس من حقنا السعى لزيادة الأجور؟

- وفى النهاية حكومتنا هى التى ستدفع.

- يا سيدى العدالة هى العدالة،وحكومتكم لن تدفع من جيبها.

- عجز الموازنة يكبل أعتى الحكومات.

- لماذا-أذن-أخترناكم؟

- لأننا أصحاب نظرة شمولية.

- هأ..هأ..شمولية،اشتراكية،شيوعية،رأس مالية،اسلامية؛الكل يخرج من جراب الفشل.

- لا تتشائم.

- نحن ندفع ثمنا غاليا،يهددنا الفصل والمقابل حروف هوجاء،بطولة زائفة نابعة من عزم متراخى،اناس تشتتهم عصى الحاجات.

- للثورة شهداء.

-فعلا فى الثورة أغبياء.

فى تلك الفترة الزمنية أتصلت أكثر من مرة بالاستاذ رمضان،فهمت من أحاديثه المتكررة أن جماعته تناهض المظاهرات الفئوية،وترسخ لدى أنهم لا يختلفون كثيرا عن مبارك أو المجلس العسكرى،بل يتمتعون بدرجة من العنت غير مسبوقة،أيقنت لحظتها أن مشاركتى فى ثورة 25 يناير كانت وبالا على حياتى،خمسة عشر يوما فى الميادين والشوارع تطاردنا الشرطة والبلطجية وأرباب المصالح،دفستنى الأقدام عشرات المرات،أجتاحنى الرعب كل مساء،عبأت جيوبى بالحجارة،نزفت عيناى أدخنة وبارود،من شارع إلى حارة إلى زقاق والمطاطى كالماء المنهمر،سحابات الموت تمطر،أبعد هذه المعاناة يأتى من يقول لى اصلاح؟    ينصحنى بالاستسلام،يدفعنى لقبول الأمر الواقع،تنغمس الحياة فى المهانة ثانية وثالثة،ومن الذى سيمتثل للاصلاح؟    من الذى سيضحى بعيشة العز عن طيب خاطر؟    ألم يسمع أحد بالمثل الدارج:إن تابت القحبة عرصت؟    أتتساوى إدارة مسجد مع إدارة دولة؟    وهل الشعب المتعفنة قروحه والمشرفة روحه على الانزهاق سيتحمل،    العشم فى غير محله.

أصبح الغد مطموس المعالم،أعتقدت فى تكوينى المتانة والقدرة على التحمل، لبستنى عباءة الجدعنة،وأفرغت قريحتى المتأججة لكى ألهب المشاعر،ولكننى لم أدرك أننى متطفل على هذا التكوين إلا مؤخرا،كلما لمحونى بينهم اثنوا على بوستاتى،وعلى صفحاتهم لا يجرأون على التعليق أو المشاركة،وكأنهم على الحياد،والمعركة ليست معركتهم ،انحصرت المعركة بينى وبين شباب المستشارين المندفع بطبعه،والمعتقد أنه فوق الجميع.

ألملم أوراقى وحاجياتى،أغادر العدلية وفى القلب غصة،أترجل الطريق إلى شقتى،لا يشدنى زحام السيارات وجموع الناس الذاهلة،أنسلخ من شارع إلى آخر،أعرج إلى محل الخمور،أبتاع خمس قنينات بيرة،نسبة كحولها تتجاوز 12% ،منذ عشر سنوات لم أتجرع البيرة،ودخولى الشقة بهذه الشنطة كارثة،فلن أسلم من التعليقات اللاذعة،وأمارات الأمتعاض الجارحة،أنحرف لأصعد الكوبرى الدائرى من مطلع بين السرايات،أستحلب المشى ،ألف القنينة بورق أبيض،أدلقها فى جوفى على ثلاث دفعات ،الوشيش الذى فى رأسى هدأت وتيرته،أتوجه إلى ركن استراحة السيارات الفارغة،أقعد فوق الرصيف،أنتهى من القنينة الثانبة فى مدة أطول،بنك الذاكرة يفرج عن مكنونه:

(سخرية،استبداد،ظلم،كلها مفردات أكتنفت عقلى المرتبك،شاركت الموظفين ثورتهم ضد الإدارة بصخب دون دراسة العواقب، الواقع الإدارى لم يطرأعليه أدنى تغيير؛فالمديرون هم مديروا التسلط والغباء،وسياسات العمل تفقدها الجدية والعدل،أتذكر جيدا ان عمرى يناهز الثانيه والخمسين ،والصحه متأرجحه ما بين تدهور واستقرار ،والأولاد يعتلون صهوه المطالب فالحكمه تقتضي الاستسلام والخنوع ،ولكن الحكمة رحلت بعيدا،مر يوم،يومان،ويصخب هدير الموظفين،أنفلت معسكر الأنضباط،تعالت الأصوات فى باحة (العدلية):

- عاوزين حقوقنا... واحد..اتنين..الميزانية فين.

أحتشد وسط الموظفين،الحضور الكثيف غير متوقع،ينم عن تخطيط مسبق،يتكاثر الموظفون،النساء أكثر حضورا،الزعماء شباب حديثوا التعيين،تمسك أم كريم بعصى،تقرع بها مكتب من الصاج،ليحدث دويا عاليا،لم تغلق الأبواب،ألتف المحامون حول المتظاهرين ،يتطوعون بتقديم النصائح،سبعة موظفون فقط من إدارتى شاركوا،مائة فرد أو أكثر قليلا لا يعنيهم من الأمرشيئا،أفرزتهم بيئة أجتماعية فئوية،ورثوا الوظيفة، فالتوريث هو اللغة المسموعة فى مجتمع أصم ،والعزاء فى السرادق المحتل كل شوارع المدينة:البقاء لله يا باشا،سبحان من له الدوام ،الدوام من شيم الكبار ،والفناء مآل المهمشين ،يرافقنى(عمار) إينما ذهبت،نصيح مع الصائحين،نرتاح قليلا فى الغرزة القريبة،نعود ثانية،أذهب إلى الإدارة،لا أحد موجود،جميعهم أستغلوا الظرف وروحوا،صلينا الظهر فى باحة (العدلية)،أنهينا الفاعلية،أتفقنا أن نستأنف التظاهر غدا.

عدت إلى البيت مفعما بالأمل ،تصفحت المواقع الأخبارية،فاجأنى تصريح رئيس العدلية،أتهم من وصفهم بالمغرضين بالوقوف وراء الاحتجاجات ،توعد بمحاكمتهم،كلام جميل ،كلام عظيم ،مارأيك فى هذا الوصف؟    دوما لا يجيد المسئول سوى حديث الطرشان ،يسوغ عجزه بالطنطنة؛مغرضون ،أرهابيون،مجرمون،رعاع،ياسيادة الباشا هؤلاء يبحثون عن مستحقات مالية كأقرانهم ،لماذا لا تلقوا إليهم إلا الفتات؛ أتنقل إلى الفيسبوك،تطوع العشرات لتدشين مواقع دفاعا عن سياسة العدلية،أيضا برزت مواقع مناهضة ،حانت الفرصة لكى تشتهر ويشار إليك بالبنان،يتحجج أنصار الوضع القائم بالترهات؛ليس هناك أفضل مما هو قائم،اطبخى يا جارية..كلف يا سيدى ،الطمع يقل ما جمعت،أزدانت الصفحات بافرازات عقول القطيع،تفرغت طوال الساعات لتفنيد حجج هؤلاء الإدعياء.)

أتأمل القنينة الثالثة أسفل عجلات المرسيدس،الهمود يلون اللوحة،يشدنى هسيس الحركة بعيدا:

(زعيق وهدير يتجاذبانى:

وفى اليوم الرابع أو الخامس أتصل بى زميل يشغل وظيفة حيوية بالعدلية،ذهبت إليه ليعصف بى:

- زعيم ثوار حضرتك.

- لنا مطالب.

-- ومن أنتم؟

- الموظفون.

- لماذا أنت بالذات؟

- هذا ما أفرزته مجريات الأمور.

- من الذى سينفق على بيتك حال فصلك؟

 أستوقفتنى هذه الجملة كثيرا،تشى أنهم يخططون لفصلى،سينفض عنى الناس،ستهزمنى المطالب،سأتشرد،سيعضون رغيفى،لن تفيدنى أمارات الأسى على حالى،تترى المشاهد المأساوية على ناظرى،يستكمل جمال التوبيخ:

- يطبع الكبير كل مداخلاتك على الفيسبوك،يتوعدك بالانتقام ،فقلت له أنك صديقى،سأمنعك عن التهور.

- لم أسئ لأحد،وليس من حق أحد المزايدة على انتمائى لهذا المكان.

- فكر فى مستقبلك القريب.

- ضربوها على عينها ،قالت:خربانة..خربانة.

- يمكنك الاعتذار وإنهاء الأمر.

- أحيانا يكون العذر أقبح من الذنب.

- قد أعذر من أنذر.

- أشكر لك النصيحة.

هذا العالم لا يحكمه إلا الأغبياء،لا يسجل كراسة التاريخ إلا الكاذبون، أسترجع مشاهدةأفلام الكايبوى كلما سابت مفاصلى،وكأننى أبحث عن بطولة مفقودة،تعجبنى المواقف الحاسمة،ألبس ثوبا قشيبا فضفاضا،تصرفاتى غير مقنعة، ،انقضت اثنان وعشرون عاما فى الوظيفة،لم تحصد سوى وقوفك كالتلميذ البليد أمام كل من بيده الأمر،مما تخاف؟    لماذا أرتعشت؟    أنت بشر وهو بشر،أتظن أن شبح الغلابة يؤرق العظماء،يطاردهم فى أسحارهم؟    يلسع الحوذى بكرباجه الناموس والهاموش،حتى تسير المركبة فى جو رومانسى.

ناوشتنى الأفكار،غيوم الكلام تسح حروفا،تتراشق الألسن بإسرار حميمية، لسان الحال لا تعايرنى ولا اعايرك فالهم طايلنى وطايلك،موظفون يثرثرون،يتغامزون،يتناجون،يتناهرون،بضاعتهم اكداس كلام منتهى الصلاحية،أضح نافوخى صندوق شكاوى مهول،زبالة متخثرة،أجولة نفايات عطنة الرائحة،أيمكن لى الانفصال عن هذا العالم المضطرب؟    لا أظن إنه عالم الجوعى والعطشى،ويقينى إنه عالم اللصوص والبلهاء،عالم المتمرغين فى تراب الميرى،وما أنت يا فيلسوف الغبرة إلا متمرغ فى (بربيت)الميرى!)

أحمل جسدى النقه،يترنح الطريق أسفل قدمى،تصلنى الشقة بعد طول معاناة،أتجرع السأم فى دورق الخفوت.

 أعود للمرة الألف لقراءة الملف الذى أرهقتنى كتابته طردا للزهق:

فوجئت بنمو العنف وتناميه دون مبرر منطقى سوى تعنت البعض، نصحت الموظفين فى بوستاتى يومها،بالتأنى والليونة ،وأطلقت سهامى على موقع دريم دريم الذى يؤجج النفوس،سجلت الكاميرات دخول المتظاهرين القاعات،وفهمت مؤخرا أن هذه الوقائع حدثت بالاتفاق مع السكرتارية ، بالطبع كاميرات الهواتف المحمولة أضطلعت بمهمة التوثيق الرئيسى،بعض القضاة تفهموا الموقف وغادروا القاعات دون خلل بسير الجلسات، والبعض الآخر حاول المماطلة وأبى التعاطف،مما دعا الموظفين للتعنت والمكوث بالقاعة ، تحررت محاضر بالوقائع ،وفى هذه اللحظات تسرب إلى نفوس المستشارين أن هيئتهم فى سبيلها للأفول،فأستشاطوا غضبا،وطالعتنا الصحف بعناوين مثل؛أقتحام قاعات العدلية،تعطيل سير العدالة،أنتشرت كلمة أقتحام كالنار فى الهشيم،ومع استمرار الأزمة كثفت الشرطة من وجودها،العشرات من الضباط ينتشرون فى شتى ربوع العدلية،وكان يوم انعقاد جلسة رئيس العدلية يوما مشهودا،الاحتشاد أمام القاعة،عشرات الكاميرات هنا وهناك،الهتافات تتسامق،القدود تهيج، خبط،رزع،صفير،والصور تترى على شاشات التلفاز،يجرونى من كاميرا إلى أخرى،لأنهم يعتقدون أننى أجيد الحديث،بل بعضهم كان يمسح العرق من على وجهى ،ويعدل ياقتى،ويقف خلفى،وأنا بدورى أسرد للمذيع القصة،أستعرض –ما أعتقد-أنه الحقيقة، احضرت كرسيا لمدير الأمن،الذى أعلن أن المظاهرات سلمية،ولم تجنح إلى العنف وسلوكنا كالثوب الابيض الرائق.

لم يعقد الرئيس جلسته،والحال يتأزم أكثر،فوجئت بالبنا الذى يشدنى بعيدا عن التجمهر،ويسر لى أن الكبيريريد الاجتماع بالمتظاهرين،ولكنه يخشى الأهانة،على الفور أجبته: لن يجروء أحد على أهانته.

- يعلق ساخرا من طيبتى: هؤلاء المتظاهرون لن يتورعوا عن التمادى ولن يحترموا أحدا.

تعبر بى الشجاعة سحابات العته: دائرة القانون تلجم أى موظف.

يبحث عن أجابة معينة متسائلا: ماذا أقول له؟

يتقدمنى إلى مقر النقابة،يستريح الزعماء،يطفأون لهيب حناجرهم بالمياه الغازية،أعرض عليهم ما نقله لى البنا،من مخاوف الكبير،يهاجموننى بشراسة متهمين إياى بالتخاذل والانبطاح تحت أقدام السلطة،لم أفهم سر هجومهم على،فالتفاوض هو مآل أى مظاهرات،ولن يستجيبوا للطلبات إلا أثر تفاوض، ومن هم هؤلاء الزعماء؟ لا تتوثق معرفتى بإحد منهم،لم أختلط بهم،معرفتى بهم هامشية لا ترق لمستوى الاندماج،معظمهم حديث التخرج والتعيين،بعضهم عين قبل تخرجه،فبأى منطق يتزعم هؤلاء الثورة؟    ولماذا يثورون أصلا؟    فأقرانهم على المقاهى يتجرعون السأم والسخام،يعانون الضياع وفقدان الهوية،يناطحون اليأس والفجيعة،لأنهم ببساطة من عامة الشعب،عانى الأهل الجوع والظمأ لكى يتعلم الابناء،أفرزتهم خيانات التاريخ،نواميس المجتمع تكبلهم بالهوان؛فابن السقاء سقاء،وابن الصرماتى صرماتى ،فكأس المهن تتوارثه الأجيال،ولا عزاء للمجتهدين،فما جدوى الدرس والتعليم؟    أتتفوق لتحتل ركنا فى مقهى المتسكعين؟    أتفشل فيحجزلك ابوك مقعد وظيفة مرموقة؟    فكيف يتسنى للمتسلقين زعامة ثورات الحقوق؟  

لملمت خجلى وانسحبت من النقابة مخلفا الزعماء يتمازحون ويتبادلون النكات والقفشات،لم يمض وقت طويل،وانعقد اجتماع بالقاعة الكبيرةجمع المتظاهرين ورهط من المستشارين،طرد الأمن كاميرات التلفاز،تحدث أحد المتطوعين قائلا:

-  لا يستقيم العمل إلا بوجود الموظف المدنى،يجب أن تحظى العلاقة بين المستشار والموظف بالاحترام.الاستجابة لمطالبكم المالية لن تؤثر سلبا على وضع المستشار الاقتصادى.

تداخلت الأصوات،تاهت الحروف،غرقت المعانى فى يم الصخب،جميع من بالقاعة يتحدثون فى وقت واحد،أمسك مندوب المكتب الفنى لاقط الصوت ،واستهلكه الخطاب:

- بالطبع تعرفون من أنا،ساندت المظلومين لنيل حقوقهم،لم أغلق باب مكتبى أمام أحد،أعدكم بمناقشة طلباتكم مع الرئيس.

تركت الاجتماع الذى أستمر لأكثر من ثلاث ساعات،لا جديد البتة،فالمفاوضون لا يملكون القرار،وفى اليوم التالى وبتكليف من الرئيس،أجتمع مستشار يحظى بالمصداقية مع الموظفين،لا مكان لقدم فى القاعة،لم يستغرق الاجتماع وقتا،لخص القضية بقوله:

- وافق المجلس الخاص على الطلبات،أرجو الانصراف الآن،والعودة إلى مكاتبكم،لن ينالكم ضرر.

حاول البعض الثرثرة واستعراض العضلات،فأنسحبت إلى الإدارة،كتبت بوست:استرد العاملون بالعدلية كرامتهم المهدرة منذ عهود وعقود،اليوم عيد،أتى بكل جديد،كرامة وحق وليد،فاليوم نحن فى تاريخ البشر عهد وسطر من عقيق،احترام وقلب من حديد.

طلع الصبح ،طبعت مشروع بيان نصه:

يكن موظفو (العدلية)آيات التقدير والاحترام لشيوخ القضاة،ويؤكدون على حمايتهم،والحفاظ على (العدلية)المبنى والمعنى،ويرسخون عدم قبولهم لشتى مظاهر العنف،ولكنكم تعلموننا أن الحلم والعفو من شيم الكبار،وحينما يخطئ بعض الموظفين الذين يفقدون القدرة على كبح العواطف والحد من الانسياق فى ركابها،فأننا نرنو لعفوكم الكريم والذى هو بمثابة وسام على صدورنا؛فأنتم أهلا لهذا العفو وأهلا لرجاحة العقل ونفاذ البصيرة.بقيت (العدلية)قلعة للعدالة،وبقيتم سدنة للعدالة.والله ولى التوفيق.

هرولت باحثا عن الزعماء،وجدتهم فى الكافيتريا يأكلون ويشربون ويحتفلون بالنصر المؤزر ،لم أشاركهم الملهاة،وحينما عرضت عليهم مشروع البيان هاجمتنى الألسن:- لم نحصل على شئ حتى الآن، دا أنت بتجيب ورا..سياسة اللين لا تنفع، نحن الأقوى، الاعتذار عن الخطأ واجب ولكننا لم نخطئ،الظاهر أنك صرت عجوزا لا تصبر على المتاعب.

اندلقت على وجهى قربة مياه،أضحت نفسى سمتا للخجل،لم أفعل شيئا غير طبيعى،علاقتى مع الإدارة لم تنقطع،هكذا أعتقد،ولكن الواضح سيادة العداء فى مشاعر الفريقين،لا أميل لمفهوم العداء،شاركت فى المظاهرات لإيمانى بالحق فى التظاهر والاضراب،والمشهد السياسى المعاصر لهذه الأحداث كان مستباحا للجميع،ثار الشعب،سيطر الأخوان على الحكم،تزامن مع هذا الواقع الجديد أنتشار المظاهرات كالطاعون، سارع الاعلام لوصم الحراك بالفئوية،ربما للاحتيال على الوجدان العام،والسعى لصناعة الكراهية بين الموظفين وبقية فئات الشعب،من ينتصر فى النهاية لا يهمها،التوتر والقلق والشجار وصدام المصالح،هذه الأهداف استراتيجية،وربما فى المستقبل القريب تضحى تكتيكية،وأنت فى أى معسكر مقامك؟

وسوم: العدد 648