فليسقط.. لا.. فليحيا..
يا أيها الموتى بحق قرابة الأشباح .
درويش من الأموات .
يركض في سهوب الموت .
فانتظروا
الطبول بعيدة
تخبو المشاعل
والظلام الحي تنعس في عباءته السهول
( من أشعار محمد عفيفي مطر )
أيقظني صوت هاتفي المحمول المزعج في السابعة صباحا ككابوس مؤلم ينهي قصته ليوقظ صاحبه بفاجعة أليمة ... عميقة .
نظرت في شاشة المحمول فوجدته ... عز الدين ... أو كما دونته عندي ( عز ) ... أحد أصدقاء المدرسة القدامى وكذلك الدراسة الجامعية .
أمهلت نفسي عدة ثوان لكي استفيق من أثر ترويع رنين جوالي اللحوح ... وجاءني خاطر سريع في بداية استفاقة رأسي وكل حواسي ...
عندما أتلقى مكالمة هاتفية في هذا الوقت المبكر من الصباح فمن المؤكد أنها أخبار جديدة ... أو أنه حدث جديد طازج ... لا ينتظر ولا يحتمل أن يتأخر ... وإن كانت حتى ساعة واحدة ... بدون أن يعلن عن نفسه .
ومن المؤكد أيضا أن هذا الحدث الجديد يحمل خبرا سيئا ... أو بكل الدقة ... خبر غاية في السوء .
هل أغلق الهاتف وأكمل نومي ؟ .
وأستعيض عن هذه الصحوة الغير مرغوبة ... بسنة نوم في بدايات الصباح ... وما أحلاها .
أم أرد على عز ؟ ... وأستقبل هذا الخبر ... أي خبر على سوئه ... كما أتوقع .
وبين أخذي وردي أمسكت بالهاتف وضغطت على زر الاستجابة ، وبصوت يغلبه الوسن أجبت عز بالكلمة المعتادة .
- ألو .
- صباح الخير
- صباح الخير يا عز
- معلش ... إني بكلمك بدري كده
- إنت بقالك فترة ما بتكلمنيش ... خير ؟
- جواد ... تعيش انت ... البقية في حياتك .
- امتى حصل الكلام ده ؟
- في الفجر ... ولسه عارف دلوقت ... أنا بلغت كل المجموعة .
- إنا لله وإنا إليه راجعون .
- الجنازة هتطلع من الجامع اللي جنب بيته بعد صلاة الضهر .
- لا حول ولا قوة إلا بالله
- معلش ... أنا عارف قد إيه أنت كنت مرتبط بيه
- ده تاني واحد من شلتنا يروح ... يظهر إن الحكاية قربت قوي يا عز .
- كلنا لها ... المهم ... تعال على الجامع ... أنا هكلم كل المجموعة عشان نكون هناك قبل الظهر ... كمان نعرف نروح الدفنة مع بعضينا وماحدش يتوه ف انتظارك .
- مع السلامة .
وأغلق عز الدين خط الاتصال ليتركني في حالة كآبة حادة هجمت على صدري وجثت عليه
كما توقعت كان خبرا أقسى من السوء ذاته ولكن على أي حال ... كنت مستعدا لاستقباله .
**********
نزعت نفسي من الفراش بعنف مساو لعنف الصدمة ...ودخلت الحمام ... وتركت نفسي تحت أنهار مياه الدش الباردة ...لكي تبرد نار حزني وتساعدني على اجتياز المفاجأة واستيعابها ... وبدأت ذكرياتي تتداعى أمامي كفيلم صغير يعرض في بصيرتي الآن بلا توقف .
كنا مجموعة كبيرة من الأصدقاء ، شديدي الالتصاق ... منذ بداية حياتنا الدراسية بطفولتها اللذيذة ... حتى انتهاء الدراسة الجامعية بأحلامها الوردية للمستقبل ...
ثم افترقنا ... كل إلى حياته وعمله وقدره ... قسمته ونصيبه .
ولكننا داومنا وواظبنا على اللقاء ... الخميس الأول من كل شهر ... نلتقي في هذا المقهى الذي سماه صاحبه بنفس اللقب الذي أطلقوه علينا منذ نعومة أظافرنا ... ( أولاد الدين ) ...
كنا ... حسام الدين ... عز الدين ... ركن الدين ... زين الدين ... بهاء الدين ...
كنا خمسة عشر ... وأطلقوا علينا ( فريق أولاد الدين ) ... كفريق كرة القدم ... بلاعبيه الاحتياطيين ...
ولكن ... بيننا نحن ... كنا نفضل ونحب أن ننادي بعضنا وننادي بالجزء الأول فقط من أسماءنا .
جواد ... عز ... حسام ... سيف ... زين ... بهاء
**********
أكملت ارتداء كل ملابسي استعدادا للخروج ... ولم يبق إلا رباط حذائي ... جلست على الأرض في وضع ما قبل السجود ... أثنيت قدما وأمسكت بطرفي الرباط ... تذكرت مشهدا مماثلا لي مع جواد ، طالما تكرر كثيرا بيننا البعض عندما كنا أطفالا في المدرسة .
كان كلا منا يربط حذاء الآخر عندما يراه محلولا ... بل كان كل فرد فينا ... أو طفل في وقتها داخل مجموعة ( أولاد الدين ) ... في الصباح الباكر ... في حوش المدرسة ... وقبل طابور الصباح ... كان كل منا يتمم على حذاء الآخر وإذا ما وجد أحد منا حذاء أخيه مفكوكا محلولا ... كان يهبط وينحني من فوره لربطه وشد وثاقه .
يرحمك الله يا جواد ... كنت مرتبطا بك بطريقة ملفتة منذ طفولتنا ، جعلت كل فرد في المجموعة يشهد ولو من باب التندر ... أننا توأم متطابق ... ولد في نفس اليوم والساعة من رحمين مختلفين .
**********
وصلت إلى المسجد قبل آذان الظهر بنصف ساعة ... دخلت بهدوء وتؤدة ... كاللص الذي يتسلل إلى مقبرة للأغنياء ليتحين سواد الليل فينبش قبورهم ويسرقها ... أو كالمتلصص الذي يقتحم محراب الموتى المقدس ... بدهاء وخبث ، ليتسمع إلى حوارات ما بعد الحياة .
لم أجد أحدا من مجموعتنا ... لا عز ... ولا سيف ... ولا حسام ... لم يحضر أي ابن من مجموعة ( أولاد الدين ) على الرغم من تأكيد عز الدين لي ... على حضورهم جميعا .
حتى هو نفسه ... أول من عرف بوفاة جواد ... وأول من أخبرني ... غائب لا أجده .
وقع بصري على الصندوق الخشبي عند محراب القبلة ... مسجى بقماش أبيض .
يرحمك الله يا جواد ... ترقد هنا رقدتك الأخيرة المسموحة قبل الغياب المؤبد ... قبل الذهاب لدار الحق .
ما زال آذان الظهر لم يؤذن بعد ، والقليلون الموجودون في المسجد ... منهم من يجلس مستكينا يقرأ القرآن ... ومنهم من يسعى لوضوئه ماشيا ... والأغلب يجلسون وينظرون إلى الصندوق الخشبي .
كثير من الوجوه هنا مألوفة في ذهني ... ولكني لا أعرفها يقينا ... لا أتذكرها تحديدا ... ربما بسبب صدمة حزني واحتباسي دموعي المنخنقة داخل أحداقي ... ومآقي المكلومة .
أريد أرى جواد ... أن أملي نظري بمحياه للمرة الأخيرة ... أريد أن أحيي عينيه المغلقة التي طالما ابتسمت في وجهي ... فرحة ... مهللة بمصاحبتي لها ... على مر سنين طويلة .
**********
الله أكبر .... أشهد أن لا إله إلا الله
آذان الظهر يمزق صمت المسجد الرخيم ... وسكوت الحاضرين السطحي المهترئ .
أقاوم رغبة مغرية جدا في الذهاب إلى محراب الإمام واحتضان خشبة الميت ... الحبيب القريب ... جواد الدين ...
أقاوم إغراء نزع غطاءه القماشي وهتك ستر ميتي المحبوب وتقبيل رأسه ... واحتضان أكتافه .
إغراء الرغبة يشتد ويمنعني الخجل السقيم ... وخوف انتقاد أغلب الموجودين ... ممن أثق بإدعائهم الإيمان والورع .
إنه ميتي أنا ... وليس ميتهم
فقيدي أنا ...... وليس فقيدهم
أنا من أعرف اسمه كاملا وتاريخ ميلاده ... أنا من عاصرت مسار حياته ...
وشاركته لحظات جل عنفوانه
وانهزام ضعفه ... وكسر هوانه
ألا أستحق التملي بقسمات وجهه وجلال سمت الموت في عينيه ... وسكونه ... ولمعانه .
لن أقاوم أكثر من ذلك ... قمت من مقامي والمؤذن يشهد أن محمدا رسول الله ... واخترقت صفوف الجالسين ، راغبي الصلاة الجامعة .
وصلت إلى الصندوق الخشبي ... لم يمنعني أحد ... كأنه لم يلحظني أحد ولم يرني أحد أو تغاضى عن رؤيتي كل راغب في الصلاة ... كل خاشع ... كل أب ... وكل ولد .
حي على الصلاة ...
قبل الصلاة ... أمسك بالقماش الذي يسجى جواد ... أقبض عليه ... أريد أن أنزعه .
أخاف أن يؤذيني جواد ببصيرته النافذة رغم بصره المغلق ...
أن يوبخني ... أن يسقط بجم أدبه لحم عظمي ... فأتصاغر أمامه ... قزما في آخر لحظات قربي منه ... وفي قلب سويداء حزني .
لا أستطيع المقاومة أكثر من ذلك ... لن أقدر .
نزعت غطاءه لأراه ....
ما أجملك يا أخي العزيز ... ما أروع بهاؤك يا جواد ... طبت حيا بجودك وكرمك .
وتزينت بجلال الموت ميتا ... وازدان بك الموت عزا .
لا أقدر أن أنزع بصري عن مطالعة قسماتك ... وجهك يمغنط وجهي ... أو كأنهما واحد .
ولكن ... هنالك شيء غريب ... شيء مريب أحسه ... وجهك يا جواد ليس غريبا .
بالقطع هو ليس بالغريب ... ولكن به شيء آخر ... عجيب ... إنه ... إنه إنه ... وجهي أنا .
أنا جواد الدين ... أنا الميت المزنوق في هذا الصندوق الخشبي ... أنا المسجى بالقماش المعطر .
أنظر خلفي لأرى جمع المصلين ... لم يلتفت إليّ أحد ... لم يرني أحد .
أنا المرحوم ولا جدال ... بعد حقيقة الموت .
احتضنني وأصرخ ... وأبكي .
يصلون السنة ... ولا يراني واحد منهم .
اذرف دمعاتي المتتالية ... وتترى وتسقط على جسدي ...
ويصلون الظهر ... ويستعدون لصلاة الجنازة
.. وأنا مازلت احتضن جسدي وابكي ولا يراني كائن كان في هذا المكان .
أين حسام ؟ ... أين عز ؟ ... سيف ... فخر ... زين ... مجد .
أين كل أولاد الدين ؟... أين أنتم ؟
ألا يوجد منكم ابن واحد من ابناء الدين هنا ؟ ... ليشرح لي ... يزيل غشاوتي ... ويمحو همي ... وينسف قهري وحزني .
وفي الركعة الثالثة ... يدعون لي بالرحمة ... بالمغفرة ... بأن يخفف الله عني حساب قبري ... بأن يدخلني جنته ... ويمحو ذنبي .
وتنتهي صلاة جنازتي ... ويحملون نعشي ... سيذهبون ... سأختفي ... سأتلاشى ...
سأموت بعد الموت ... سأدفن سهوا وخطأ .
لا مفر ... لا مفر ... سأذهب معك يا جسدي
أمتطي جسدي وأنام عليه .
أحس برائحتي ... لأول مرة أميزها وكأنها قد ماتت هي الأخرى ودفنت وطويت في صحائف النسيان .
يحملوني إلى الجنازة ... سأذهب على المقبرة ... قبري الذي لا أعرف أين هو .
لنذهب إذا ... هناك استجلى الحقيقة ... هناك أكشفها أو يغلبني وهمي .
وهناك بالقطع سيأتي أولاد الدين وينشلون جسدي من مواتي ... من قاع وقعر حزني ...
**********
ومضينا جميعا في جنازة ... ربع مهيبة ، أرى فيها الحزين حقا ... والمتصنع حزنا ...
وأرى بكل وضوح الشامتين زمنا .
كلهم رافعون سبابتهم ويوحدون ... ويشهدون أنه لا إله إلا المولى ... وانا ... جواد الدين ... الميت المغبون ... أرقد محمولا على أكتافهم وأعناقهم .
لم أعد أحس بفراغ بيني وبين جسدي ... التصقت به وتوحدت وتأكدت ... وتيقنت أنني المرحوم ... أنني الميت ... لا يجوز علي إلا الرحمة ... وقليل منهم المترحمون كتفي ثقيل ... ذراعي ثقيل ...
جسدي المقبور بعد قليل يزداد ثقلا مع نهنهات الرجال وبين صرخات النساء ... بكاؤهن والعويل .
لم أعد خفيفا كما كنت ... حركتي محدودة ... ملعونة ، بدون حياة ... جسدي الآن يحملني ويحمل معي ذنوب الأيام ...
الذكريات وكل السنين .
**********
وصلنا أخير إلى المقابر ... إلى الجبانة المُقَبضة ...
غبار كثير ... كثيف ... الكل واقف ... وما من مكان لجالس ... وما من بقعة جلوس .
وفتحوا باب المقبرة ... لأرى مستطيلا أسود وسط ضوء النهار ... يفضى إلى مجهول مرعب ... مخيف .
أين أنتم يا من كنتم معي ضد كل عدو ...
كل مرض وداء .
لا أحد منهم هنا .
هل خدعوني جميعا ... هل خدعت ؟ .
هل أنا ميت حقا ؟
أم أن كل الحضور ... كل الظروف ... كل ابن من أبناء الدين ... تآمروا جميعا لأموت قهرا .
أمسكوا بصندوقي قبل النزول ... قبل الهبوط ... يقرأون آخر ما يقرأ ... وما أرادوا أن يقرأ من القرآن .
جسدي يثقل ... ويزداد ثقلا حتى أحس أنه كاد ... أو أنه بالفعل التصق بألواح الصندوق الخشبيه .
ونهبط جميعا ... يحملني خمسه وأنا سادسهم محمولا ... يتلاشى ضوء الدنيا رويدا رويدا .
حتى هبطنا إلى قاع المقبرة ولم يبق إلا ضوء شحيح يأتي من أعلى ... من عند هؤلاء الذين مازالوا يتنفسون الحياة .
يحملوني في صندوقي ليضعوني وسط جثامين أخرى .
يا إلهي ... يا إلهي .
إنهم كلهم هنا ... كلهم ميتون ... كل أبناء الدين بجانبي ... كلهم ... أربعة عشر ... وأنا آخرهم ... أنا من أتممت جثامينهم .
عز الدين ... حسام الدين ... سيف الدين ... زين الدين ... ركن الدين ... فخر الدين ... مجد الدين ... جناح الدين ... صقر الدين ... أسد الدين ...
وأنا آخرهم ... أنا آخر موتاهم ... جواد الدين ، ينصرف الأحياء ... ينسحب الحضور ... أسمعهم يغلقون باب المقبرة ... أسمع حفيف وصلصلة ... بل حشرجة خشنة ... إنهم أحجار باب المقبرة ... يرصونها كما كانت .
ويموت آخر شعاع ضوء نحيف .
وتظلم الدنيا تماما .
**********
وتمر عدة دقائق مظلمة مقبضه كأنها الدهور أحس أنني مقبل على حياة ما تحت الأرض .
حياة ... حي مقبور .
مدفون تحت الحياة ، يجهل مستقبله القريب فإما جحيم وإما هناء بطعم العزاء .
وتنحسر أصوات الموجودين في الأعلى شيئا فشيئا ويسود السكون التام ... ويطغى ... ويلتئم مع الظلمة السميكة .
أحس بجسدي خفيفا كأنه الروح ... أو كما قيل ... أو كما وصفوا ... وسمعت .
وفجأة ... ومن قعر سمك الظلام ... ومن عمق رحم السكون ... أضئ المكان بالكامل كأنه الاحتفال ... كأنه الكرنفال ... كأنه الصواريخ اللونية في السماء تختال .
وأجدني أقوم من رقدتي ... فأجد كل أبناء الدين قيام التفوا حولي ... احتضنوني ... وعانقت كل منهم بحرارة الشوق وقسوة طول الغياب .
أرى في وجه كل منهم ابتسامة نقية خضراء ... وأمسك كل منا بكتف الأخر والتففنا في دائرة كبيرة ... كما نفعل في وقت الطفولة ... قبل الشباب ... قبل الشقاء .
وقالوا لي كلهم في صوت واحد ... ونفس واحد ... وحبور غالب .
( أهلا بك يا جواد ... لبيت النداء ... لا تخف ... لا تقلق ... أنت حي ... كلنا أحياء .
وكل من هم فوقنا يختالون بأنفسهم ... وضوء حياتهم ... هم كلهم ... كلهم ... أموات ... ) .
الأربعاء 15 أبريل 2015
الساعه 7 مساء
فندق Alvalade
لواندا . أنجولا .
وسوم: العدد 648