الليلة العاشرة عشر

-من قصص ألف ليلة و ليلة-

"مضايا"

قالت شهرزاد:  بلغني أيها الملك السعيد أنه و بعد أن ثار أهل "سورياستان" على واليهم الجائر فإنه قد استنفذ السبل لإعلاء صولجانه و إخضاع أهلها لسلطانه،  فاستعان بالفجرة من "روسياستان" و بقايا المجوس من "إيران" و من لف لفهم من أولياء الشيطان، فأعملوا القتل بالعباد وعاثوا في الأرض الفساد ، لكنه لم يبلغ المراد.  فما كان منه إلا أن جمع كهنته، و أولياءه و خاصته، فأجمعت الجموع على أنه لن يُلجئ القوم للخضوع إلا طريقة "الجوع أو الركوع".

و شرع أزلام الطاغوت في إطباق الحصار على القرى و الضياع، في سائر الأصقاع.  و كان منها ضيعة قد خصها الله بالعطايا تدعى "مضايا".  فلما اشتد عليها الحصار، غدت لا يُجبى إليها درهمٌ و لا دينار، و شح فيهاالماء و الغذاء، و تعذر الوقود و الدواء، فصارت مرتعاً للآفات و الأوباء، و أضحت مضرب المثل في البلاء. و ما كان من أهلها إلا أن أن ازدادوا صبراً و عناداً، و ثباتاً و اتحاداً، و منهم من قضى نحبه جوعا…..لكنهم أبوا ركوعا.

ثمّ إنه كان في إمارة "جربستان" أميرٌ عُرِف بالحكومة الرشيدة، و السياسة السديدة. فزعموا أنه لما شاع خبر نكبة "مضايا" و أن أهلها اضطروالأكل القطط و البلايا ؛ زعموا أنه دبّت فيه الحمية، و بقية من نخوة عربية، فأصر حازما، و نوى عازما، و عقد جازما، ليفعلنّ فعلةً تُستردُّ بها الكرامة، و تذهب في التاريخ مثلاً للشهامة.  فأتى بنديمه و أنيسه، مستشاره و جليسه، كبير الوزراء، في بلاده الغراء، صاحب النظر السديد و الرأي المفيد. و أمره أن يشيع في الرعية أمره، و أن يحفظوا عليه سرّه، بأن يرفعوا في خلواتهم أيديهم إلى السماء، و يجأروا بالدعاء، أن يزول الكرب و البلاء، و يعود لأهل "مضايا" الرخاء.

و قيل إن الوزير كاد أن يوافق الأمير في هواه و يُنفذَ ما رآه ...لما أدرك ما قد يحلّ به من غمٍّ يُخشى أن  يعكر عليه صفو لذّة شرب الشاي، و الاستمتاع بعزف الناي.

لكنه و بما أوتي من عقل راجح، أبى إلا أن يكون الأمين الناصح.  و بنظره الثاقب، قدر العواقب، و أنذر الأمير من العاقبة الوخيمة، و التبعات الجسيمة.

فقال إن هذا الأمر قد يدخل الحزن على صدور الأحباب، و يثير حفيظة الأغراب، و يظهره داعياً للإرهاب!

و بين أخذٍ و عطاء، و تداولٍ للآراء، وقعا في ارتباك، حتى أوشكا على العراك.

فأرسلا في طلب الشيخ الأكبر، صاحب العلم الأوفر ، ليكون الحكم العدل، و صاحب القول الفصل.

فلما أن سمع الشيخ المقالة، اعتلته من الهيبة هالة، فأمعن النظر، و قلّب الفِكَر، ثم أدلى بأرائه الألمعية، في خطبة أصمعية:

"إن هذا الدين يسر" و "إن الضرورات تبيح المحظورات" و إنه" حرم عليكم…..إلا ما اضطررتم إاليه" و إنه "لا ضرر و لا ضرار" و أنه " يرتكب أخف الضررين" و أننا و أنها و أنه …..

فما على أهل "مضايا" من حرج في أكل القطط و الكلاب، و بذلك "تسد الذريعة" فلا ندخل الحزن على قلوب الأحباب، و لا نستثير حفيظة الأغراب، و لا نظهرَ دعاةً للإرهاب!

تهلل الأمير و الوزير لكلام الشيخ النحرير. لكن الأمير أراد لقلبه مزيداً من الطمأنينة، و لعقله أن يبلغ يقينه، فتساءل:  و لكن إذا نفذت القطط و الكلاب...فماذا يأكل أهل "مضايا" يا أحباب؟

وثب الشيخ قائلا: أطال الله عمر الأمير.. يحمل هم الأمة الكبير….الحمد لله الذي أباح للمضطرالميتة و الدم و لحم الخنزير!

تساءل الملك:  و لماذا لم تفتوا لأهل " مخيم اليرموك"، بهذا الكلام من الذهب المسبوك؟

وثب الشيخ: لأن " الضرورة تقدر بقدرها".  و في "المخيم" - بغالب الظنّ- الجثث سريعة العفن.  أما في "مضايا" يحفظها البرد، و الحمد لله عله هذه اِلمنن.  فالميتة لأهل "مضايا" أبقى، و مطعمها أنقى!

لقد كفيناك هذا الأمر أيها الأمير...ألا و إن الخطب يسير…. فإن للخير باب كبير غير هذا الأمر العسير

و منه أبرِّ البرِّ أن توسعَ على أهلك و صحبك بالنفقة، و "إن في بضع أحدكم صدقة"!

قال الملك:  و لكن يا شهرزاد، ما نبأ " مخيم اليرموك"؟

و هنا أدرك شهرزادَ الصباح، فسكتت عن الأمر المباح

وسوم: العدد 650