رُدّ قلبي !
الغرابة في حياتنا ليست شيئاً غير معتاد أبداً، إنها كل ما نفعله ونحن مدركون تماما أننا بعده سوف لن نعود أبداً كما كنا.
أكتب هذا وأنا أعرف أنك أبعد من يمكن أن يقرأه، لم تكن يوما بعيداً إلى هذا الحد المتعب، ولم تكن قريبا إلاّ إلى الحد الذي كان يجعلني أستغرب من نفسي ما أفعله.
نفسي التي ما عدت أعرفها، كيف تبدلت هكذا؟ أسأل ذاتي مرارا وتكراراً، كلّ صباحٍ أفتح عيني على حالٍ لم أكن أرى فيه صورتي التي أعرف، أنظر إلى ساعة هاتفي، أتفقد صوتي هل مازال بنفس النبرة الهادئة؟ أبصر وجهي في المرآة لعلّي أرى ما يطمئنني، وليس فيهِ من ملامحي التي كنتُ أعرفها شيء.
أبحث عن نفسي وسط كومةٍ من التساؤلات، أيناي أنا التي كنت؟ لا أدري، أتعثر بك مجددا بين ثناي قلبي، تتوسد شراييني، تنظر إلي بتلك النظرة التي حفظتها وألفتها، تلك النظرة التي سلبتني لبّي بالكامل، تبتسم ابتسامتك التي سرقتني من نفسي، وتضحك تماما كما كنت تفعل حين أقول لك شيئاً تستغربه.
تقولُ إنّي غريبةٌ، فأعدّل من جلستي، أضبط نظارتي المائلة، أتحدث بلكنةٍ أوضح، أخفّف من سرعتي في الحديث لتفهم ما أقوله، وحين أنتهي من آخر جملة، تعيدُ جملتك التي لا تملها: أنتِ فعلاً غريبة.
لماذا أنا غريبة؟ لا تجيب بشيءٍ واضح، لكنك تقول شيئاً آخر، لستِ كأحد، أنت فقط مختلفة.
تضحك لأنك تعرف أن الأمر ليس تماماً كما نقوله أوّل مرة، الوعد الأول، والحرف الأول، الكتابات الأولى، السيجارة الأولى التي جعلتني أسعل كثيراً، لكنّي أحببتها، أصابتني بالغرابة، فلم أشعر بأي طعمٍ لها، سألتك يومها: هل لها طعم حقاً؟ ابتسمت قلت بأنّها الحياة نفسها، وأنا ضحكتُ لأني قبل ذلك اليوم لم أتذوق طعم الحياة، لم يخطر ببالي أن يكون طعمها مخبأ في سيجارة.
النظرة الأولى، هل تذكرها؟
يفزعني الامر، لأني لا أعرف بعدها كيف أمشي باعتدال، تخونني رجلاي، فأشعر بان حذائي أصبح فجأة ضيقاً، وأن سترتي مائلة جهة اليمين، ونظارتي على وشك الوقوع، وكحل عيني يذوي تحت العين، وأحمر شفتاي لم يعد أحمرا تماما صار زهريا، وحقيبة يدي تسقط مني مع كلّ خطوة، كأني أمشي إلى شيءٍ أجهله، شيءٌ يغريني للذهاب إليه، لكني لا أعرفه، تحاصرني النظرة الأولى، والابتسامة الأولى، وكل تلك الهالة التي تصيبني بالدوار، كأني طفلةٌ تسيرُ إلى موكب العيد القريب، تنتظر دورها لتركب الأرجوحة، تؤرجحني عيناك، أميل بكاملِ وجداني إلى حيث أنت، أنحني لألتقط روحي التي تضطرب فتهتزفتثمل فتغيب عني وتتركني وحيدة، أذهب وأجيء ما بينهما، قلبي الذي كان صندوق حكايا، صار يمتلأ بحكاياك أنت، بقصصك، بأحاديثك، ابتسامتي تشكلت على شاكلة ابتسامتك، عيناي أصبحتا بلون عينيك، أحاديثي صارت موسومة باسمك، وطعم الأيام والحياة صار لهما نكهة سيجارتك.
قل عنّي غريبة إن شئت، أنا فعلا أصبحتُ أضجّ بالغرابة.
تلتهمني الذكرى بالكامل، كلما استعدت تفاصيلي معك، لم تكن عاديا، ولم تكن مميزا، أنت بالنهاية شخصٌ كجميع الأشخاص الذين ألتقيهم، ولا يشكل ذلك بالعادة أي تغيير أو حدث ذا أهمية بالنسبة إلي، لماذا إذن أحدثت كل تلك الزلازل في نفسي؟ لماذا امتلأت بك إلى الحد الذي لم أعد أعرف معه كيف أعيد ترميم ذاتي السابقة؟ كيف استطعت أنت دون الآخرين أن تهز عرش قلبي، وتثبت فيهِ ملكك، وتسمي نفسك عليه سلطانا وصياً؟ ووريثا شرعياً لكل مشاعره وأحاسيسه؟
لماذا أيها الأحمق الكبير جعلت منّي تجربة تثبت فيها لنفسك بأني حالة استثانية تحدث مرة كلّ دهر؟ هل كنتُ أستحق ذلك منك؟ أم أن قيمة الغرابة التي لازمت قصتنا منذ البدء كانت كافية لأن تجعل المغامرة بهذا الشكل الفادح واردة جداً؟
أحببتك، والله قد فعلت، كطفلة تدخل أول مرة متجراً للألعاب، فترتمي بحضن أول لعبة تراها فتسرق منها براءة نظرتها الأولى، أحببتك كضوءٍ مبهرٍ يشرقُ على عالمي، فأمتلأ به حدّ الإبصار إلى أبعد نقطة في هذا العالم، أحببتك كنبي جئتني بأجمل الأديان التي توصلُ إلى الجنة دون عقاب، فآمنتُ بك، واعتنقت عقيدة السير في درب هواك، وأقسمتُ لنفسي آلاف المرات ألاّ حبّ يصلُ إلى قداسة هذا الشعور الذي نبت في أعماقي، واستوطن ذاتي، فأصبحت لا أتنفس إلا به.
عطرك قاتلي، أتذكر ما كان يفعل بِي حين أرشه في كفي كي أستبقيك حاضرا بيني وبين نفسي في غيابك؟
رقمك الذي رغم كل محاولاتي لحفظه بقي عصيا علي، لكن اسمك كان طاغيا على قائمة مكالماتي، كلما فتحت هاتفي أتفقد اسمك فيه، هل مازالت أحرفه بنفس بهائها؟ هل مازال صوتك عالقا في ذاكرته؟ هل تركت لي شيئا منه أتناوله حين لا أراك؟
ماذا فعلت بهذي الغريبة؟ وما الذي ستفعله الغريبة في الآتي بعدك؟
ستقول إنّي لم أفعل شيئاً؟ وحين أسالك بطريقة أخرى، ما الذي فعلته أنا إذن؟ تجيبني بكل ثقة: فعلتِ بي كلّ شيء!
أبتسم، ثم أضحك، ثم لا أعرف ماذا يمكن لي أن أجيبك، أنت تجيد الحديث أفضل، وأنا أجيد الصمت أكثر، وبين حديثك وصمتي، تولد ألف مسافةٍ بيننا، تمتد علامات الاستفهام جسراً نحاولُ أن نختصره، تنظر إلي كأني آخر البشر على الأرض، وأنظر إليك كأنك أول بشر ألتقيه، وأنك الأوحد والأخير، في لحظةٍ تستعيد وجهك الذي عرفته أول مرة، تختفي تلك العقدة المخيفة التي يطيب لها المقام فوق جبهتك، تشعل سيجارتك بعد عهد من الانتظار، تبتسم ابتسامتك الأولى، تشعل سيجارة أخرى لي، أطفئها، أقول لك ببراءة الطفلة الأولى: أريد سيجارتك نفسها، أريد طعم الحياة ذاك.
وسوم: العدد 652