صحوة
انطلقت السيارة من مدينتي إلى العاصمة تقلني وفتيات في مقتبل العمر لايزيد عددهن عن أصابع اليد ، يرافقنا مسؤولان رياضيان ، كان أحدهما قد ابيض رأسه ، وكان الآخر في ريعان شبابه .
لم يَدُرْ في خلَدي يومذاك أن هذه الرحلة ينظمها ناد في المدينة ، فجُلُّ علمي أنها تتبع مديرية التربية والتعليم كما أخبرتنا مدرسة الرياضة ، وكنت أنا بطلة المدينة المرشحة لبطولة الدولة في سباق الجري، فقد حطمت في مدينتي الرقم القياسي في تلك المباريات ، كانت رحلة صاخبة فالفتيات يمرحن ويضحكن ويغنين في السيارة، وما إن وصلت الحافلة بنا إلى الفندق ووضعنا أمتعتنا حتى طلبت الفتيات من الرياضي الشاب، وبإلحاح شديد أن يأخذانا إلى دار الخيالة " السينما "
كنت أعرف هذه الدار وأراها مليئة بالضجيج والظلمة، وكنت أنفرمنها عندما كانت أمي تأخذني إليها، كان رأسي يؤلمني من جوها ، ولم أكن أرى فيها المتعة التي تراها الفتيات المراهقات …
نزلنا من الفندق والفتيات في غبطة وسعادة ، وكنت متثاقلة الخطا، لم تأت معي جدتي التي رافقتنا الرحلة وأبت على حفيدتها أن تنام في غير بيتها بدون رقابتها، كانت صارمة ، لكنها كانت لاتقصر في أداء واجب يتطلبه العلم ، أو هكذا حسبت يومها أن هذه الرياضة تابعة لمادة مدرسية .
كانت العاصمة مكتظة بالسكان، صاخبة، تعج بالحركة والأنوار، وفيها من بهارج الدنيا ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، لم تكن مدينتي صغيرة فهي ثاني مدن الدولة، ولكني بها أنام مبكرة وأستيقظ مبكرة ، تلك عادة عودناها منذ صغرنا .
وصلنا دار الخيالة استنكرت كثيرا من تصرفات الفتيات ولكن لاحيلة لي فأنا مرافقة ، وأنا واحدة ، وهن لارقيب عليهن من أهاليهن، وقد وجدن فرصة ليتصرفن كما يحلو لهن ، لاكما يجب أن يكون ،لم أكن وقتها متدينة، ولم أك أعرف الدين حق يقين ، كنت أعرف أن للكون خالقا، ولكن الله غفور رحيم يدخل الجنة حتى العصاة بكرم الأخلاق، ولم أكن وقتها أعرف معنى للعبادة إلا الصلاة، ولم أكن أحافظ عليها، وكيف، وأمي لاتحافظ على الحجاب ولا على الصلاة، وكذلك الجو العائلي، اللهم إلا أدعية ترددها جدتي كل صباح ولكنها لاتعرفنا أهمية الدين وحلاوة العبادة إلا نصائح لاتتجاوز شغاف القلب في جو بعيد عن الله سبحانه، وكل الذي يهمها أن تغرس في نفوسنا أن الحياء زينة الفتاة لنكون في المجتمع محافظات على سمعتنا أن يمسها أحد بسوء ، أما ماسوى ذلك فكان بعيدا عن تفكيرنا، وإن طرأ على مخيلتنا فكرة دينية ما كقضية الحجاب أو غيرها من الفرائض أجلنا تطبيقها إلى حين نكبر، إذ لا زلنا في عرف المجتمع صغيرات …
هكذا كان تفكيرنا وتفكير معظم الناس في مجتمعنا الحضاري الجديد إلا من رحم الله، وأحمد الله أن حفظني من المنزلقات .
دخلت دار الخيالة ، وكان العرض أجنبياً … عري وهتك فوق الحدود، عبث ولهو فوق المزيد … اشمأزت نفسي، كرهت النادي وما تحويه الرياضة، وصار ما تحويه في نظري ليس إلا ضعضعة للأخلاق، أو خيل إلي وقتها أن الرياضة كذلك، نفرت من صحبة فتيات غير متزنات، كان منظري وإياهن واحد، كلنا بلا حجاب، ولكن ليست قلوبنا سواء، أو على الأقل بدءاً من هذه اللحظة، فقد تباين مسلكنا، وهذان اللذان جاءا للحفاظ علينا هما سبيل للتهديم لا للبناء ، لم يعودا في نظري رجلين ذوَيْ مروءة ونخوة، إنهما لاهيان يضحكان ويلهوان على حساب المراهقات .
الله وحده يعلم كيف قضت كل واحدة ليلتها ، لكني قضيتها على فراش من الشوك أفكر في هذه الحضارة الهدامة: هل جئنا مع مدرسة ومع منظمة للتربية والتعليم ؟ أم جئنا لتزل القدم بما نراه وما نسمعه ؟…
ولاحظت الجدة ما أنا فيه من وجوم ونفور، ولعلها أعادت السبب إلى الإرهاق الذي كنت فيه في يوم السفر مع السهر، ولم يدُرْ في خلدها أن هذه الملامح هي بداية الصحوة .
لم أكن لأخفي عنها شيئا، هكذا عودتنا في الحياة ، كانت تستمع إلينا بصبر وحلم، وكانت ترشدنا إلى ما ترى فيه الخير ، … ولما أخبرتها بما رأيت وما سمعت قالت والحزن يمض قلبها :
-رفع الحياء من وجوه النساء
- أليس الحياء زينة الفتاة
-كان ذلك من زمان … ولكن …
-أهذه هي الحضارة الحديثة وبهرجتها وزينتها ؟…
-الحضارة يابنتي غدت دعارة
-أليست المدارس لتهذيب النفوس ؟ فلم غدت دافعا للفساد ؟
- نحن في زمن غدا فيه العلم تجارة ، وسيلة للعيش لا للنهوض بالأمة ، وليس لمرضاة الله سبحانه .
-أهذه حرية المرأة ؟
-ها قد رأيت ثمرة هذه الدعوة الوخيمة بأم عينيك .
-وهل يوافق أهالي البنات على ما فعلن وما رأين ؟
-لو علموا …، ولكن البنات لا يخبرن أهاليهن، ولو أخبرنهم لأرشدوهن لما فيه مصلحة لهن .
وأردفت :
-عليك يابنتي أن تتعلمي لتكوني مربية للأجيال ، ففيك خير ، وقلبك صاف نقي .
… … …
وانتهت المباراة … وكنت بطلة الدولة في سباق الجري، وتقدمت إلي الفتيات يهنئنني بحماس وحيوية ، فنظرت إليهن نظرة اشمئزاز، وأدرك مدربا الرياضة اللذين جاءا للغاية نفسها فاكتفيا بالتهنئة الوقور …
حملت كؤوسي بل فؤوسي لأقطع شجرة الفساد من حياتي قبل أن تعشعش في أرضي … مزقت الصور، وحطمت الهدايا …
وقالت أمي لما رأتني أفعل ما أفعل، وقد عهدَتْ فيَّ هدوءًا في تصرفاتي، وروية في تفكيري :
-لم تحطمين وتمزقين ؟ ألست سعيدة ببطولة الدولة ؟
قلت وفي القلب حسرة ، وفي الصدر آهة :
-لو عرفت يا أمي ما رأيت باسم الرياضة لما لمتِني على عزمي في تغيير نهج حياتي ، لقد كانت الرياضة شركا للشيطان ، ولكني أحمد الله سبحانه أن بصرني من حيث أرادوا لنا الشر والفساد
وأدركت أمي بعدما شرحت لها ما يريده الزبانية …
لقد كان هذا الفيلم نارا تحرق رواسب الأخلاق والدين، ولكن الله سبحانه أزال عن عيني الغشاوة فرأيت ببصيرتي مالم أره من قبل ، أدركت أن الحضارة ماهي إلا وضاعة ، ورحت من يومذاك أفكر في الخلق وأسبابه وفي المصير المنتظر للبشرية، وصرت أعب من كتب الإسلام عبا … وعشت خلال ذلك مع حلاوة الإيمان الذي امتزج في حنايا أضلعي، وكان أكثر ما أثر علي قوله تعالى " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ، ولا يكونوا كالذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ، اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها " وقلت من يومها بلى ، لقد آن الأوان …
وكانت نخوة في الضمير، وصحوة في المسير، ونورا يرتد به الظلام .
وسوم: العدد 652