أنيسة ومجنونها
في إحدى قرى مصر ، نشأت أنيسة وتربت ، وتعلمت ، حتى حصلت على ليسانس الآداب قسم الفلسفة ، فتاة جميلة ، من أسرة متوسطة ، أحبت أحمد ابن الجيران حبا عفيفا شريفا ، كان أكثره بنظرات الأعين ، دون لمس أو مس ، وتواعدا علي الزواج لكنها في يوم من الأيام سافرت مع والدها إلي المدينة لشراء بعض الأشياء ، وفي أحد المحلات ، اقترب منها دياب عبده الخالي مقدماً نفسه لأبيها قائلاً:
ـ د . دياب عبده الخالي ، طبيب بالمستشفي العام ، ولي عيادة خاصة ، ولي شقة واسعة ، وسيارة فارهة ، وأتمنى أن أشرب معك الشاي.
ـ وهل تعُرفني يا ابني؟
ـ تُشرفني معرفتُك يا عمي الحاج.
ـ أنا الحاج عبد القوي ، من قرية الزواوي ، وعندي ثلاث بنات ، بنتي هذه كُبراهن ، وهي حاصلة علي ليسانس الآداب هذا العام بحمد الله.
ـ بإذن الله سأزورك غدا ومعي والدي ووالدتي .
كانت أنيسة تملك جمالا باهراً وقاهراً في آن واحد جعل د. دياب يتعجَّل في زيارة أهلها هو وأهله وتناولوا الغداء مع أسرة أنيسة، وبعد الترحيب، والمقدمات قال والد دياب الحاج عبده الخالي:
ـ لقد أتينا للتعارف، ولكن خيرالبر عاجله، نحن نرغب يا حاج عبد القوي في القرب منكم ، وتزويج ابننا د. دياب من ابنتكم الأستاذة أنيسة، ودياب طبيب في المستشفي العام ، وله عيادة خاصة في المركز، وهو جراح ناجح ، وكل الناس تتحدث عنه وعن شهرته.
ـ يشرفنا نسبكم يا حاج، ولكن اتركنا أسبوعاً لمشاورة أعمامها وأخوالها.
ـ يكفي.. علي بركة الله .
وكان أسبوعاً من أسود أيام أنيسة علي الإطلاق، فقد أصبحت ممزقة بين حبها، وحب أهلها للمال والجاه ولم يكن لها مخرج إلا الاستسلام ، وخلال ثلاثة أشهر زُفّت إلي د. دياب وغادرت القرية بجسدها لكن قلبها ظل هناك.
وبعد عام من الزواج أنجبت ابنتها الأولي ، وكانت صدمة أولي لزوجها ، لأنه يحب الأولاد الذكور فقط ، ولا يميل بطبعه إلي البنات مطلقا.
وذات يوم عادت الخادمة مزروعة من السوق، وقالت لأنيسة يا سيدتي سمعت كلاما لا يسر عدو ولا حبيب، عن سيِّدي د. دياب.
ـ وماذا سمعت يا مزروعة ؟
ـ بعض الناس يقولون إنه يتاجر في الأعضاء البشرية، ويسرق الكلي من المرضي ويرسلها للعاصمة، فتوضع في أجسام أثرياء المصريين والعرب.
بدأ الشك يدب في رأس أنيسة، وبدأت تتعسس مكالمات زوجها مع الآخرين، وتأكدت من قول مزروعة، وواجهته لكن بطريق الحكاية عن طبيب قرأت عنه في صفحة الحوادث، فاضطرب قليلاً ثم بادرها بقوله:
ــ لعله فقير وأراد أن يعيش مثل الأثرياء!
ـ ولكن هذا يغضب الله سبحانه وتعالي.
ـ وما دخل الله في ذلك، إنه في هذه الحالة ينقل عضوا من إنسان لا يحتاجه، إلي إنسان يحتاجه.
ـ لكن لا بد أن يخبر مريضه.
ـ إذن لن يشتغل أبدا.
ـ ترى كم يكسب من نقل الكلية الواحدة ؟
ـ على ما أسمع.. إذا كانت لمصري فإنها تكلف مئتي ألف جنيه ، أما الثري العربي فأحيانا يدفع ربع أو نصف مليون جنيه!
ـ إذن الأمر أصبح شائعاً بين الجراحين.. لكن كيف يصطاد فريسته.. أقصد مريضه؟
ـ بسيطة إذا أتاه المريض بألم في جانبه الأيمن أو الأيسر، يشخص له الأمر علي أنه في حاجة إلي عملية جراحية ، فإذا كان الأيمن ، قال له الزائدة الدودية ، وإذا كان الأيسر قال له هناك ورم في الأمعاء الغليظة النازلة، وهذا يحتاج إلي مجموعة تحاليل حتى يكون العلاج علي ما يرام، وسوف أرسلك إلي مستشفي " كذا " لعمل التحاليل بالمجان ، ويمكن أن نعمل لك العملية هناك.
ـ ألا يشك في حرمة ما يفعله؟
ـ هذا أمر لا علاقة له بالحلال والحرام هي أصبحت تجارة والتجارة شطارة وطالما الواحد منا يصلي ويصوم ويحج ويعتمر فهو قد أرضى ضميره الديني أمام الله.
ومرت أيام أنيسة رتيبة مملة أنجبت خلالها ست بنات على أمل الاتيان بالذكر، وفي المرة الأخيرة قال لها زوجها:
ـ إذا لم تأت لي بولد سوف أطلقك.
وذات ليلة رأت أنيسة في منامها أنها ستنجب ولدا، وأخبرت دياب بما رأت، وطلبت منه أن يشدّ حيله على قدر ما يستطيع، فحاول مدفوعاً بحب الولد، وتم بالفعل الحمل وبعد شهور قال لها متلهفاً:
ـ يا أنيسة، هلمي لعمل [ سونار ] للكشف علي نوع الجنين.
ـ لماذا هذه العجلة؟
ـ أنا مش ناقص بنات.. إن كان ولدا تركناه، وإن كانت بنتا أنزلناه.
ـ أتقتل النفس التي حرم الله؟
ـ لا يوجد حرام في الطب.
وبالفعل أصر على عمل [ السونار ] وظهرت صورة بملامح أنثى، فأخذها إلي طبيب نساء وتوليد من أصدقائه، فأجريا لها عملية إجهاض في شهرها الخامس لكن الجنين المجهض كان ذكراً وليس أنثى.
عندما شاهد دياب ذلك فقد عقله، وترك البيت والطب والشهرة، وساح في الشوارع يرتدي جلبابا واحد دون ملابس داخلية، ويتغوط على نفسه الأمر الذي جعل الخلق تتجنبه لكن بعضهم كان يرق قلبُهم له فيغسلونه بخراطيم المياه حتى مرض بالسل وتكوم عند كوبري قريب من أحد أقسام البوليس.
كان الجندي عبد العال يمر في دركه، فيرى الدكتور دياب مكوماً على نفسه وبجواره صندوق قمامة قد تناثرت القمامة على جوانبه الأربعة، وعند الفجر لاحظ كلبا يرفع ساقه ليتبوَّل فوق دياب فقذفه بالحجارة وبعد قليل رأى عربة كارو تتوقف عند دياب لحين ينتهي حمارها من التبول فزجر الحمار ليكمل سيره، وأخذته الشفقة بدياب فذهب إليه ليوقظه فوجد المرض قد صرعه.
قال تعالى: { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ } سورة سبأ الآية 54.
وقال تعالى : { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } سورة الشورى الآيتين 50،49.
وسوم: العدد 655