صياد

ابتسمت وسألت مخبري : متأكد ؟!

أجاب : مثلما أراك .

وأخذ أوقية الشاي ، وذاب في الليل الشتوي الذي يدثر الزقاق الذي ينهض دكاني الصغير المتواضع على هامشه .

سبحان الله ! محمد أبو ماهر صياد يصيد الطيور ببندقية ! ماذا حدث لقلب الشاعر ؟! يتغذى بالعصافير بعد أن كان يتغنى بها ؟! صحيح أنه توقف عن قول الشعر من سنين ، لكن كيف ماتت رقته ؟! من أين وافته هذه القسوة الجديدة ؟! رحمته للطيور شهيرة وحكاياتها كثيرة ، أوقعته مرات في مشكلات مع الناس ، وبعثتهم على السخرية منه . رأى غلاما يصيد اللوامي في كرم تين ذات خريف ، فنهاه عن صيدها ، ومما نصحه به : خل أمك تذبح لك واحدة من دجاجها الكثير !   ولما كان الغلام يرى نصيحة الأكبر منه سنا أمرا واجب الطاعة  فقد نزع فخه ، وعاد إلى البيت . وفي أوبة محمد لقيه والد الغلام زوبعة تبرق حنقا وهياجا ، ووثب على  رقبته صارخا :  تمنع ولدي من الصيد ؟! أنت يا بن سارق الدجاج ! أبوك كان يسرق دجاج العرب في الليل الأظلم . إن كنت لا تعرف هذا أنا أعرفه . كل الناس يعرفونه . اسأل أي واحد ! لم يبق إلا هذه . تمنعون أولاد الناس من الصيد ! . فما الذي قلب محمد  هذا القلب الكامل ؟! لم يصد الطيور في صباه ويصيدها الآن في كهولته . لم ألقه منذ شهور . آخر مرة لقيته كانت لتعزيته في أخيه الوحيد الذي يصغره . قتل في جريمة مبهمة حفظتها ملفات الشرطة ضد مجهول . وفي خروجه خطواتٍ معي من المأتم سألته : ماذا قلت في رثاء المرحوم ؟

فقال بعد صمت وتأمل : أحمد لا يرثى بالشعر ، لا علاقة لي بالشعر !

في جوار سكنه وادٍ يأتث على جانبيه الشجر : أثل وبوص وبعض السدر . أين سيصيد إن لم يصد في هذا الوادي ؟!

أخذت سبيلي إليه عصرا . رمله أبيض ناعم ، مجرى سيل شتوي ، ينقطه بزل الماعز والنعاج التي تسير فيه إلى مسارحها في التلال المشرفة عليه من الشرق . بأي هيئة سأراه ؟!  وهل سأراه ؟! اندلعت حركة من أثلة على جانب الوادي الأيمن ! برز أبو ماهر في بنطلون رياضة أزرق ومعطف زيتي وكوفية حمراء ملفوفة على رأسه ، وفي يده بندقية دمدم ، وتتدلى من كتفه اليسرى مخلاة صفراء . صافحني دون بشاشة ! عذرته في نفسي ، لا يمكن أن تفارقه آثار قتل أخيه بسهولة وسرعة .

قلت : صياد ؟

فرد دون أن ينظر إلي : صياد .

_ أبو ماهر يصيد ؟!

فالتفت إلي نصف التفاتة وقال : أليس مثل الناس ؟!

قلت : نجلس هنا !

وأشرت إلى رملة نظيفة ، فقال : تعال !

سايرته إلى سدرة في كنفها رماد ، وبراد شاي بادي السواد ، وكوبان ، وكيس بلاستيك أسود معقود .

قلت : هذه حياة شاعر رومانسي .

فنظر إلى نظرة أفزعتني . سألت نفسي : لم لا أغادره ؟! الرجل ليس طبيعيا . ظاهر أن مقتل أخيه أثر في نفسه وعقله تأثيرا سيئا لم أحسن تقديره . قال : نشرب الشاي .

صب الماء في البراد من زجاجة عصير ، فأطلت منه نملة ، فلم يهتم بها وبما تدل عليه من احتمال وجود سواها فيه ، وفتح كيس البلاستيك ، وأخرج منه صرة صغيرة بيضاء ، وحفن سكرا من الكيس ، وبدأ يحل الصرة ، يبدو أنها  تحوي شايا ، وسكنت يداه ، وهمس : يمامتان !

لمحتهما إزاءنا في سدرة على الجانب الأيسر للوادي . وسدد فأصاب إحداهما . هوت تتعثر مضطربة بين الأغصان حتى بلغت الأرض . رفرفت متقافزة ، فاندفع إليها ، وتابعته متوجسا قلقا . أمسكها ، تأملها ، وابتسم ابتسامة غريبة ، ونزع من جيب معطفه سكينا وذبحها . قال : آه لو أعرف قاتل أحمد ! سأذبحه مثل هذه اليمامة !

وسوم: العدد 657