كابوس

عصام الدين محمد أحمد

أنحرف حيث تتكاثر الخيام ،هذه المرة يتبعني ( إسلام )،تتوسط الخيام جميع الساحات الخضراء والأرصفة، أمر أمام ( لوكاندة ) الحرية ،يعبرني فندق الفردوس،أصل إلى نزل الشهداء ، جدر هذه البنايات الفخمة من البلاستيك الشفاف،أخيرًا ألج خيمتي المتاخمة  لمسجد عمر مكرم، يفترش أرضها الكارتون،أثني قامتي ،أتمدد مسترخيًا ،أحكي وكأنني أشاهد فيلمًا سينمائيًا.

ترتج السماء ، ضباب ونيازك وشهب ،أيادي قوية تقبض على هذا الشيء الذى كان أنا، مائة أو يزيدون يُمسِكُون بي ، يأتون من كل فَجّ عميق ، يرتدفون البغال ،ينفثون اللهب ، يصفعون الطوب والحديد ، يتجرعون الدم والقيء ،تتجهم قسماتهم؛ ربما يرغبون الثأر.

 صوت حاد المقاطع:

- ماذا فعلت؟

لا أجرؤ على التفوه .

- أين لساني الذى ملأ الدنيا نعيقـًا ؟

- أين حروفي الباترة؟

- أين الحمار؟

الصوت ينخرني بلا هوادة:

- أتعفنت ثمارك؟

يقطع إسلام عقد الحكاية قائلًا:

- تتعمم رأس بقروانة، بحلة ألومنيوم وقالبي طوب ، بأوراق الكارتون ، بخوذة من البلاستيك المقوَّى، تذكرت على الفور جنود العصور الغابرة.

أزيح الإغفاءة جانبًا.

أقول:

- ومع ذلك حجر ضخم يشج الرأس،أذرعنا المتشابكة فى الصفوف الأولى أختُرِقَتْ، دقائق وترتدي ذات الرأس عصابة ، تشتتنا أعاصير التحرك ،تناطح الرؤوس الفؤوس، لحظات وتحمل الأيادي البدن المترنح أسفلها إلى العيادة،برهة وتعود ،وهكذا دواليك!

يعلق إسلام :

- شرعت فى الهرب،السيوف تحصد الرؤوس ،فلما التمترس فى ساحة الضعفاء؟

أتهكم:

- ربما تتوق لأن يُنْحَت لك تمثال فى المُتْحَف!

أصمت وكأن نوازل الدهر ألمت بكياني، لم أتمكن من ترجمة الشعور الذى يكتنفني،ولم أرغب أن يكون الحوار مُزْحَةَ ، لا طائل من وراءه سوى تمضية الوقت ، كائنات هلامية تأتي بفؤادي ، تنقع شغافه فى سائلٍ لزجٍ ، يترسب فى قاع الكأس أتربة وأوساخ، لم أفق إلا على همهمات ينثرها إسلام .

- الوجوه مكفهرة.          

رائحة شواء تزكم أنفي ، مشهد عبثي يغادر مخيلتي مبتعدًا بمئات من البشر يحترقون، الدهون المحترقة تَدْبَق جسدي، تفرُغ زجاجة المياه ولم يرتوِ جوفي، أتململ طالبًا المزيد، يحاول إسلام مساعدتي على الوقوف ، أرفض مساعدته ،أحُثه لأن يدعني منفردًا لبعض الوقت ، ما بين الرجاء والفعل مكابدة وأنين ، رَذَاذّ كلماته تُربِكُني.

- وظيفة و حبيبة وصومعة.

هذه الأحرف ألقتني فى بوتقة الغليان، تهاجمني المشاهد.

تراقبني شواهد قبور ، قُذِفَ بها هنا وهناك ، ترسم لوحة خطوطها رقيقة وتشي بقليل من التنظيم ، لم أقدر على حمل جثمانها الخفيف ، منذ سنوات بعيدة لم أرَها، ألقيت بعواطفي أسفل قدميها ، لم ترحمْني ، جَفَوْتُها ، والآن تجدني أشيِّعُها ، تنظر إلي بعيون متحجرة ، أتوارى بعيدًا ، أخشى الأيادي التى تحملها ، تتدلى أناملها من تحت الغطاء الخشبي ، ذراعاها يستطيلان ، تتلمَّسَان طريقهما إلى عنقي ، تنفكان من منبتهما ،التوى عنقي متدليًا على صدري، جحافل الديدان تنبثق كنافورة مياه ، يتسلل المشيعون، يطير اللحد ، الهواء الحار يُلْهِب حواف عنقي المبقعة بإفرازات الديدان ، اسَبِّخ رأسي المجزورة فوق الشواهد،خيانات حميمية هنا وهناك،أنفاس لزجة بالأدخنة تلهث وتصفر، تنفلت ذراعي اليمنى ، نصلها حاد،تمزق الجثمان المرتج فى الصندوق إرْبًا إرْبًا، واليد الثانية تكوم القش ، وبالكيروسين تشعل النار فى نِثـَارِ اللحم ، المشيعون يتراجعون، تصبب الجبين مياهًا ملحية لاذعة الطعم .

تصخب وتيرة النواح ، تغربلني الرعشات ، يدفع إسلام الطبيب إلى الداخل ، تتكاثر حروفى.

- البقاء فى قلب الصورة أفضل من خارجها !

يتلعثم الحكيم:

- ما أيسرَ الادعاء فى زمن الكلام!

يُضِيف إسلام ووجهه يكسوه الأسى:

- بحثت عنك كثيرًا.

يرجُفُ لساني الجاف:

- حينما يعبرني زمان لا يحتويني مكان.

ينحت حروفـًا فوق صخر اللسان:

- ربما تتوه معالم الطريق!

تُلاحِقُ الصيحات الدكتور، يحقنني بسائل مخدر،يركض خلف النداءات.أتسرب إلى دنيا الخمود،تترى الأحداث،يتخاذل الإدراك،ترتخي عضلاتي ، تتداخل الأصوات،صفير الرياح يُدَثِّرُني بالأرمدة ،يداي تزيحان الأتربة،الأبواق الهاتفة تزلزل رخاوتي ، بقاياي تنتفض.

تمت بحمد الله

وسوم: العدد 657