معذرة داروين ...أنا لست قردا
أنهت " إلين " مقالها وأحست بفخر غير مسبوق ؛ لقد توجت عامها الأول بجامعة امستردام بمقال علمي أثبتت به عقيدتها وزاوجت فيه بين نظريتي التطور والتصميم الذكي؛ لتبارك فكر داروين وتثمن عمل المدارس والجامعات الهولندية التي تؤكد لتلاميذها وطلبتها في كل عام على أن داروين على حق وأنه قدم للإنسانية سر سلالة الإنسان .
وقامت تسارع إلى تقديمه للمجلة المحكمة التابعة للجامعة لعله ينال قبول لجنة التحكيم وينشر في عددها الخاص الذي خصصته للحديث عن نظرية التطور، وكم كانت متحمسة وهي تنتظر رد لجنة التحكيم خاصة بعد أن قرأت في جريدتها اليومية المفضلة "نرس هاند لسبلاد "- والتي يهتم بقراءتها الكثير من المثقفين والأكادميين - مقالا للبروفيسور " بيت بورست " المتخصص في الكيمياء البيولوجية عن أثر نظرية التصميم الذكي على الداروينية .
وما إن بدأت المقال الذي افتتحه البروفيسور "بيت" بقوله: " داروين كان على حق..." حتى أخذتها أفكارها بعيدا وسرحت بها في بحر من الأماني العلمية تصور أمامها عشرات بل مئات من المقالات باسمها وقد نشرت في مختلف المجلات المحكمة تؤيد كلها نظرية التطور وتسعى إلى الاستدلال عليها، فركزت تفكيرها ورددت الكلمات التي ختمت بها باكورة مشاريعها الكتابية القادمة: " سأتابع بكل جد وربما شوق كل دليل علمي يؤكد هذه النظرية الفذة التي جاد بها العقل البشري...".
وكم كانت المفاجأة كبيرة صبيحة يوم الغد عندما وجدت مقالها منشورا في مجلة الجامعة وكادت تطير فرحا وهي تصرخ بأعلى صوتها : " إنها بداية مشواري العلمي...سأقتحم المجلات المحكمة بمقالاتي وسأثبت أفكاري...". وسرعان ما رسمت مخطط مقالاتها القادمة وعزمت على أن تصوغ أهم النظريات التي جاد بها العلماء على شكل مقالات .
استقبلت" إلين" عامها الثاني بجامعة امستردام بكل جد وهي تنوي التفوق ...والتقت في مدرجاتها بأول محاضرة ... وضعت أمامها أوراقها البيضاء لترسم مسار المقال الجديد ...ودخلت مع الدكتور المحاضر دهاليز نظرية "لومبروزو" في السلوك الاجرامي والتي ركز فيها على وجود صفات عضوية يتميز بها المجرم عن غيره؛ فالمجرم نمط من البشر يتميز بملامح عضوية خاصة، ومظاهر جسمانية شاذة ...وراح الدكتور المحاضر يشرح النظرية ويعطي أمثلة تفصيلية عن صفات جمجمة المجرم وطول ذراعيه وضيق جبهته و...
كل هذا وإلين تسمع للمحاضرة بكل دقة، وفجأة استوقفت الدكتور وسألته: حضرة الدكتور هل يمكن لشخص ما أن تكون مواصفاته الخِلقية تنم عن الإجرام ولا يكون بعد ذلك مجرما . مع العلم أنه لا يملك بأي حال من الأحوال لا خلقها ابتداءً ولا تغييرها انتهاءً؟
أقلق السؤال الدكتور المحاضر فأجابها بكل صرامة ودون الالتفات إلى مصدر السؤال: " النظرية واضحة فالمجرم له تفاصيل خِلقية تنم عن الاجرام وكل مجرم يحمل صفات وراثية خاصة . واضح يا قرد؟"ََ.
وفي هذه اللحظة قامت "إلين" بكل هدوء وقالت: " أنا لست قردا حضرة الدكتور، إنه مجرد سؤال حيرني وأردت الاستفسارمنك".
وفجأة تذكرت مقالها المنشور بمجلة الجامعة عن أن أصل الانسان قرد ...
واستغربت شعورها الغاضب عندما وُصفت بما اتصف به أسلافها القردة . ودخلت في متاهة مظلمة شعرت خلالها بالسذاجة وبالسخرية مما كتبته. وانتابها شعور بالإحباط وأحست ولأول مرة بأنها غبية لأنها لن تستطيع لا أن تقنع نفسها بأنها منحدرة من عائلة قردة ولا أن تنفي هذا الاعتقاد الراسخ بأن سلالة الانسان متطورة من القردة كما أنها بكل تأكيد لن تصل إلى إقناع نفسها بأنها ليست إنسانا لتخفف عن نفسها على الأقل وقع صدمة اتهامها بأنها قرد. ولم تستطع أن تفكر إلا في شيء واحد وهو الخروج من المحاضرة والعودة إلى البيت لعلها تجد بين أفكارها المبعثرة ما يخرجها من الاعصار الذي يكاد أن يفتك بروحها فيحيلها هباء منثورا.
وعادت تحمل بين جنباتها هما لم تحمله من قبل. وما إن دخلت غرفتها حتى استلقت على سريرها لعلها تلقي عليه ثقل ما تحمله ، غير أن المجلة التي كانت تستلقي على مكتبها استفزتها وهزت أفكارها مرة أخرى فقامت وامسكتها من تلابيبها تفتش بين صفحاتها عن مقالها الذي يريد اقناعها بما وصفها به الدكتور المحاضر، وبين كلماتها القوية التي دافعت بها عن نظرية داروين وبين احساسها الغاضب من اتهام الدكتور المحاضر لها استجمعت قواها الخائرة وأفكارها المشتتة وعقيدتها التي ألقمتها إياها المدرسة والجامعة رفعت قلمها وكتبت بكل إصرار معذرة حضرة الدكتور أنا لست قردا.
واستقبلت "إلين" صباحها على صفحات جريدة "نرس هاند" في عددها المتجدد لتقرأ في أول صفحاتها مقالا تحت عنوان: " معذرة داروين أنا لست قردا" وأحست لأول مرة بوخز الحقيقة في قلبها ممزوجة بدمعة استقلت وجنتاها لتغادر مقلتيها وتعلن لها بأن هناك من يبحث عن الحقيقة ويصل إليها بكل شجاعة. وهنا نظرت "إلين" عبر شرفتها إلى شوارع هولندة فرأتها ولأول مرة كأنها تتملص من بين يدي داروين لتشرق شمسها باعتذار مصيري يعيد للإنسان انسانيته . وهنا فقط أحست بأن ألم اتهام الدكتور المحاضر بدأ يخف فعرفت أنها ارتشفت مع الصفحة الأولى لجريدتها اليومية أول جرعات الدواء.
وسوم: العدد 661