تشابُه أسماء

د. أحمد محمد كنعان

أغلق محمود الكتاب الذي بين يديه ووضعه جانبا على المقعد الذي يجلس عليه في المقهى عند ضفاف بردى، مع زميلته " جولييت"، 

التفت إليها بعينين دافئتين وقال :

- جولييت، دعينا نتمشى قليلاً ؟

فنظرت إليه بحنان وأغلقت كتابها ووضعته إلى جانب كتابه ، وقاما يتمشيان على ضفاف بردى، مدت جولييت يدها نحوه فاحتضنها بيده في فرح غامر، ومد ذراعه الأخرى فطوق جولييت فوق كتفيها، وراح يداعب خصلات شعرها بأصابعه، والتفت إلى النهر فرأى البدر يراقص النجوم على صفحة الماء، وهبّت نسمة تعبق برائحة الياسمين الدمشقي فأحس وجولييت كأنهما عصفوران يطيران في الأعالي ، ولاحت منه التفاتة فرأى على البعد منارة الجامع الأموي تتألق بضوئها الأخضر فسبح المولى ، وتناهى إلى سمعه صوت الغناء يأتيه من مقهى على الضفة المقابلة يصدح بصوت فيروز (قرأتُ مَجْدَكِ في قلبي وفي الكتبِ) فانطلق الاثنان بالغناء ( شآمُ أنتِ المجدُ لم يَغِبِ ) وفجأة وجدا نفسيهما أمام حاجز عسكري لم يكن في هذا المكان أمس ، وصرخ فيهما صوت خشنيأمرهما بالوقوف مع أنهما كانا قد توقفا قبل الصوت، وظهر أحدهم من خلف الساتر حتى إذا أصبح تحت الضوء تبين أنه ضابط برتبة نقيب، وعلى الفور أمرهما :

- الهويات، هاتوا الهويات.. هيا !!

 فمد محمود يده وأخرج محفظته وسحب منها هوية الجامعة وقدمها للضابط الذي تفرس فيها برهة ثم أخرج كراسة من جيبه وفتحها وراح يتفرس فيها كأنه يطابق الاسم مع ما فيها ثم طلب من محمود أن يقترب ليكون تحت الضوء، وتفرس في وجهه وقال له بنبرة ظافرة :

- إذن أنت محمود النجار؟!!

فردّ محمود وقد بدأ يتوجس من السؤال :

- أجل، أجل، أنا محمود النجار ؟!!

عقّب الضابط قائلاً :

- عظيم، عظيم !

وتناول الهوية من جولييت وراح ينقل نظراته بينها وبين محمود، ثم قال متعجباً:

- جولييت ومحمود !! مسيحية ومسلم في هذا الليل الرومانسي؟!! ( وضحك ضحكة مشوبة بشيء من السخرية لاختلاف دين العاشقين، وأردف متسائلاً ) لكن ما الذي جمع الشامي على المغربي؟!! 

فتبادل محمود وجولييت ابتسامة شفافة غير آبهين، وماتت الضحكة على شفتي الضابط، ومد يده فأعاد الهوية إلى جولييت ، وهمّ ان يدس هوية محمود في جيبه ، فأسرع محمود يرجوه :

- الهوية لو سمحت، أعطني الهوية، غداً عندي امتحان في مادة التشريح !!!؟

فاعتكرت نظرة الضابط، وأجاب بنبرة قاطعة :

- يا حكيم ! لا جامعة ولا تشريح !! سأنتظرك غداّ في المركز ٣٠٣ المقابل للجامعة، الساعة الثامنة صباحاً لنشرب القهوة معاً ( واصطنع ابتسامة فاترة قبل أن يضيف ) لا تتأخر، تبرد القهوة !

فتدخلت جولييت :

- أرجوك يا سيد،  لا تفوّت عليه الامتحان ، فتضيع عليه السنة كلها !!

فنظر إليها نظرة ذات مغزى، وردّ باستخفاف :

- يبدو أن جولييت مشغول بالها على روميو !!؟ لا تخافي، سنعيده لك سالماً معافى، المهم أن يحضر غداً في الوقت المحدد !

وعادت جولييت تلح عليه بالهوية، فتردد ثم مد يده وقال لمحمود وهو ينظر إلى جولييت :

- خد، كرمال هالحلوة، لكن بشرط أن تقدم امتحاناً ممتازاً.. يا حكيم !

فسحب محمود الهوية وشكره، وقال :

- الحمد لله، علاماتي دائماً ممتازة، وأرجو أن تزورني قريباً في عيادتي الخاصة ( استدرك ) دون مرض .

في اليوم التالي كان محمود في قاعة الامتحان منهمكاً بالكتابة في ورقة الأسئلة حين فوجئ بكفٍ قاسية تنقضّ على الورقة وتسحبها من بين يديه، رفع نظره فرأى رجلاً ذا سحنة قاسية يرميه بنظرات تقدح شرراً يأمره بمرافقته، فنظر محمود إلى مراقب القاعة يطلب منه التدخل، لكن المراقب تجاهل تماماً ما يجري ، فلم يجد محمود بداً من الامتثال لاسيما عندما لاحظ المسدس في نطاق الرجل، فقام يرافقه حتى وصل به إلى مركز الأمن المقابل للجامعة، وهناك اقتاده أحد الحراس إلى غرفة مدير المركز حيث وجد نفسه وجهاً لوجه مع الضابط الذي التقاه ليلاً عند الحاجز، قال له الضابط بنبرة اصطنع فيها الرقة : 

- أهلاً... حكيم، أهكذ اتفقنا ؟! ألم نتفق أمس على ان نشرب القهوة معاً ؟! لقد بردت قهوتك!! 

وأشار الضابط إلى كرسي مقابل مكتبه وطلب من محمود الجلوس، فدفعه الحارس نحو الكرسي بجلافة، فصرخ الضابط بالحارس :

- على مهلك يا حمار، أنت تتعامل مع دكتور !

جلس محمود فيما راح قلبه يضرب بجنون متوجساً للمفاجآت التي تنتظره في هذا المركز المعروف بسمعته الرهيبة بين طلاب الجامعة، وتعاظمت مخاوفه عندما سمع صرخة مدوية صدرت عن قاعة مجاورة قدّر أنها صرخة أحد الموقوفين تحت التعذيب، وانتبه الضابط لوجه محمود الذي علاه الشحوب، وأراد أن يهدئه فسحب سيكارة قدمها له، ثم تراجع وهو يبتسم ابتسامة فشل في نفخ الحياة فيها، وقال :

- آسف يا حكيم، نسيت أن الأطباء لا يدخنون 

وأطلق ضحكة صاخبة ترددت أصداؤها في القاعة الواسعة، فلما ارتوى من الضحك فتح دفتراً بين يديه وبدأ توجيه سيل من الأسئلة إلى محمود ، ثم توقف ودفن سيكارته في المنفضة بانفعال، ونظر الى محمود نظرة غامضة وقال :

- آسف يا حكيم، يبدو أن هناك تشابه بالأسماء ، وقد تأكد لي الآن أنك لست الشخص المطلوب !

فانفرجت أسارير محمود وقد أحس بالفرج، ونظر إلى الضابط نظرة امتنان مكرراً أنه لا علاقة له بالسياسة والأحزاب ووجع الراس من قريب ولا من بعيد !

فقاطعه الضابط :

- أجل، أجل ، أنا واثق من ذلك ، ولكن ...

عاد محمود يتوجس مما ينتظره، فيما تابع الضابط يقول :

- لكن يا حكيم أنا مضطر للاحتفاظ بك عندنا يوماً أو يومين ريثما نعثر على الشخص المطلوب، فلا تواخذني !

ردّ محمود :

- أنا رهن الإشارة، لكن أرجوك دعني أكمل تقديم الامتحان غداً

قال الضابط :

- لا بأس، سأرسل معك غداً مرافقاً فتقدم الامتحان وتعود إلينا

وأشار الضابط إلى الحارس الذي كان يقف خلف الباب، فجاء إليه، وهمس الضابط في أذنه كلمات قبل أن يذهب الحارس فيرافق محموداً إلى خارج الغرفة، وعند طرف الدرج النازل إلى القبو عاجل الحارس محموداً بلكمة عنيفة في ظهره، أهوت به إلى القاع !!

فلما أفاق وجد نفسهفي المستشفى، حاول أن يجلس فلم يستطع، واكتشف أن أطرافه غارقة بالجبس !

في صباح اليوم التالي جاءت جولييت إلى المركز تسأل عنه فأفادها الضابط أنهم حولوه أمس إلى المحكمة ، ولم يعد يدري أين هو الآن، 

واختفى أثر محمود لأكثر من سنتين، وفي مطلع السنة الثالثة فوجئ أهله بكتيبة من العساكر يجلبونه في نعش ويحذرون أهله من فتح النعش مع الإسراع في دفنه دون تأخير وقدم أحدهم تقريراً لأهله يتضمن أنه مات من أثر نوبة قلبية قبل يومين

وعلمت جولييت بالفاجعة فحضرت جنازته ودفنه ، وحين أيقنت برحيله بدأت تفكر بقبول زواجها من ابن عمها يوسف الذي تقدم لخطبتها مرات عديدة، لكنها ظلت ترفض بانتظار عودة محمود!!!

 وفي ليلة عرسها حيث كانت في الكوشة إلى جانب عريسها فوجئت بمحمود يظهر وسط القاعة، وكان يبدو عليه الإرهاق الشديد، فلما رآها إلى جانب عريسها انهار إلى الأرض، فقامت جولييت مسرعة، لكنها انهارت وسقطت مغشياً عليها قبل أن تصل إليه، وانقلب العرس إلى مأتم فسكتت الزغاريذ وتوقفت الموسيقى، وعلمت أسرة محمود بالخبر فطالبت بالتحقيق حول ما جرى لمحمود الذي سبق أن سلمت جثته المزعومة الى أهله، فبين التحقيق أن الذي دفن قبل ذلك ليس محمود بل شخص آخر ادعت أجهزة الأمن في حينه أنه محمود، وعندما علم الضابط إياه بعرس جولييت أطلق محمود نكاية منه ضد العاشقين !!!

وسوم: العدد 661