قوائم
طوابير غير رسميّة. طوابير ولادة وطوابير ممات. طوابير احتمالات لا تنتهي... قد لا تعني!!
كانوا جالسين في نفس المكان، ذلك مكانهم المفضّل، الكلّ يعرف ذلك المكان بهم، المكان عاديّ جداً لا يختلف عن الأماكن الأخرى، سوى أنّه لهم، فحسب، ولم تكن صدفة أن اختاروا لأنفسهم ذلك المكان، بل كان ذلك بعد تمحيصٍ وتخطيطٍ كثيرين، وكانت الفكرة أن تبدأ بالنّظر وتنتهي بحرق ما لن يكون في مستقبلهم، هم استعاروا تلك المساحة، أنشأوا ذلك المكان، لم يكن سهلاً الحصول عليه، فقد باعوا أنفسهم نصف يوم دائم مقابل ذلك، وكانوا قد تعذّبوا كثيراً إلى أن استطاعوا إقناع صاحب قطعة الأرض، ليس لأنهم عديمي الفائدة لصاحبها، بل لأنه لم يكن يقتنع بفكرتهم الغريبة، حيث كانت الفكرة مسرحاً صغيراً، دون إسمٍ ومجّاناً، لم يستمر، في لحظةٍ ما أحسّوا بأن ذلك المكان قد لا يريدهم، قد يغدر بهم، قد يلتهمهم، فلم يقوموا بأيّ شيءٍ. ترى كيف حدث ما لم يحدث؟
بقوا هكذا، لم يستطع أحد أن يحلّ مشكلتهم. يوماً ما مات صاحب قطعة الأرض وماتوا هم أيضاً، في أيّامٍ وسنوات مختلفة. صرخ أحدهم بأنه كان يعرفهم، وصرخ آخر بأن صاحب قطعة الأرض والده وأنهم كانوا يكذبون بادّعاءاتهم، وكانوا سيفتتحون ملهى، وأنه الآن مالكها الوحيد... كان ذلك سرداً مختصراً لحلم أحد المجانين الذين اجتمعوا في ليلةٍ كنتُ منهم!!
وكان قد أنهى حلمه، حين مرّت تلك العجوزة بجنبنا وهي تتمتم لنفسها " اقترب وقت الحجّامات، عليّ أن أرسل في طلبه، الدّم في أفضل حالات تغيّره، هذه المرّة لن أدفع له شيئاً، فقد كنت حبيبته يوماً ما ".
ما من أهمّيّة تأخذني إلى حيث لا أستطيع أن أذكر، فأنا لن أستطيع أن أجزمك دون نفسي، على الآتي تارةً وعلى النّحو المختلط تارة أخرى، ولا معلومة قد تؤجّل نظريتي المكوّنة من أنت الآخر، كما ليس بالأمر الهيّن أن نتفادى أو نحاول أو مجرّد أن نفكّر، في اجتياز عتبة الوعي المنهك من جريان واستمرار كلّ حدثٍ مدفوع، بالضرورة، أو الشّروع في إتمام ما قد يكلّفنا مستوياتٍ منحرفةٍ لإقامة تفعيلٍ إستقصائيّ، كردّ لاوعيٍ مُعالَجٍ بصيغة التّناحر الوظيفي القائم على لا مميّزٍ ولا تغييرٍ في هندسة معنى النّتيجة لدى المستمع أو ربّما القارىء، دون أهمّيّة إن كان طبيعيّاً أو في حالة عقم فهم علمي، ولو أنّ في المنظور ملاقاة بعض الصيحات التي تعاقب كلّ ماضٍ قد يخيفك، بشكلٍ أو بآخر، فالأفضل أن تنقل ذلك إليه مجدّداً، وتعتبر نفسك الجاني الوحيد، فتخرج من نفسك سجيناً، بمعنى آخر.
ولذلك فإنّ السلوك في هذا الإتّجاه، والمحمول في الوقت نفسه على عدّة تسميات غير مفسَّرة، ومحاور، قد يكون شبيهاً بأشياءٍ معدية، ويتحوّل ليبدو كما شُعبٍ من الإستفهامات التي يمكن أن تقاس في لحظةٍ ما ب لاوعي مطلق، وتكون النّتيجة قريبة من المثاليّة الكتابيّة، كما لو أن كلّ هذه الكلمات ستصمد أمام ما قد لن تبالونه حين لن تمانعوا ذكرياتكم بطريقة مختلفة، بل على العكس تماماً، وربّما بإصرارٍ أكثر... قد يعزى ذلك إلى تبرير السّماح للدّوافع باللحاق الدّائم.
اقترحت العجوز لنفسها هذه السّنة إرجاع شيءٍ من قصّة لا زالت، وتغيير بعض الوقائع التي لم تكن موافَقة في حينها، فالرّجل في رأيها الحالي، يستحقّ العطف قليلاً، بل وحتّى مبادلة عاطفته، وإن لم تكن بقوّة ما يحتاجه. كان يقول في نفسه أن الوجوه تتقابل حين تُكتب لها نهاية ما، أو عندما تبدأ البشرة بالتغيّر، ثم يجلس أمام المرآة لساعات طويلةٍ كي يرى هذه الظّاهرة على طبيعتها، لكن يجد نفسه فجأة وهو متكوّرٌ على نفسه وقد أيقظته البرودة بعد أن يكون قد تبوّل على نفسه لمرّات عديدة، دون أن يحس، فيتحمّم وبعدها يخرج لمواجهة وجهها من جديد.
لم يلاحظ الظّاهرة، لم يستطع أن يثبت مقولته لأصدقائه الذين لا يزالون في انتظار ذلك، لكن في كلّ مرّة يكتشف لوناً جديداً في قزحيّته، كلّ مرّة يقرأ حكاية عن الشّياطين والمقنّعين والجنّ الذين يخرجون من الأعين. أما هي فكانت تدرك كلّ شيءٍ عنه، كلّ ما يحدث له، كانت منشغلة بنفسها لغيره، لم تكن تعيره أيّ اهتمام، كانت تراه في كلّ لحظة، في كلّ حالاته، لم يكن بينهما سوى الهواء. كلّ ذلك مضى والآن تعطي نفسها له، كلّ ما لديها، عسى أن تعيده من جديد... مات الرّجل منذ زمن طويل، قتله ذلك البرد اللعين.
وكان ذلك ملخّص قصّة يسردها مجنون آخر كان قد سمعها من نفسه، واعتذر لنا لعدم ذكر التّواريخ أو الإفصاح عن إسم الرّجل، وتوعّد بأن يثأر له، كون المرأة العجوز لا تزال حيّة، بحسب نهاية القصّة. وقتها بدأ الكل يصرخ ويهتف بشعارات مشجّعة له وبأن القصّة الآن باتت في يدٍ آمنة وأنّهم سيمحون النّقطة ويستمرّون فيها ويبدأون بالبحث إلى أن يجدوا تلك الشّمطاء، ومن ثم يأتوا بها إلى هنا كي تموت أمام مرآة.
ما أعنيه هو أنّ الألوان تحمل العقد في أمكنتنا المتآكلة، كما كلّ الأبعاد الغير معرّفة والتي يمكن أن يقال عنها ب التفاوض الكونيّ القدريّ لحيواتٍ يغلب عليها الحدث الأكثريّ، فإن قدّرنا إحدى الصّيغ المبسّطة للخوف، كما التي تحكم ملاقاة بداية ما، والتي لا تحدث أثراً إلا في بعض التقاطعات الذُرويّة النادرة، فلا يبدو أننا سنكون راضين إلا إذا بدأنا بالتّحدّث عما يجمعنا أوّلاً، فأنا ايضاً كنت في نفس الطّابور، وكنت مثلك الأوّل.
لا أعلم كيف أوصلت نفسي، كان الوقت متأخّراً، المكان غريب، البناء غريب، الأوجه غريبة، الغرفة مظلمة، جلست قريباً من الطّاولة واستمعت لهم، يبدو أنّي كنت هارباً إليهم، لكن لا أحد أراد أن ينتبه لي.
وسوم: العدد 663