هدايا الموج

 لم يكن معلم الجغرافيا عندما كنا نرسم خارطة اليونان ، بتشعبات وتعرجات امتداداتها

في البحرمقتنعاً بدقة الرسم ، فكان مما نحصل عليه من رضاه ، هي ابتسامته

الساخرة ، وكذلك ضحكته المؤيدة ، عندما أعلّق عليها بجرأة " أنها مثل عظام أصابع

اليد المتناثرة "! .

لم يكن لتعليقي لحظتها أي دفع ، بزيادة درجة تقييمه التي كتبها باللون الأحمر،وثبتها

بجانب الخارطة ،لكن ثقل يده حينما يضعهاعلى رأسي، يشعرني أنها هي التقييم

الحقيقي ، لما تكوّن ما بين الرسم والكلام ، وهذه لحظة من الزمن  ، حفرت في

ذاكرتي لم تمحى أبداً ،ولا أدري لماذا !  ،  فلا هي المفارقة عندما يضع استاذ رجل

غريب يده على رأس فتاة صغيرة لاتتجاوزالثانية عشرة من عمرها ، ولا هي خرق

لعرف أوطريقة تربوية ،ولكن لا أحسبها إلاّ قصيدة شعر حزين ، كتبت منذ تلك السنين

الآمنة من طفولتي ،كنت أنا إحدى مكونات مولدها ومماتها بآن واحد . !

نَكبرُ مع الجغرافيا في الدفاتر ، ونَظلّ على ذات مقاعد الدرس ، ونَكبرُ مع التاريخ ،

ونَكبرُ في ظل حضارات الأمم ، ونكبر ونكبر ، ولا نرى أنفسنا إلاّ ونحن في  ذات

المكان ،وكما رأيناه أول مرة ، بل وكما رآه أبي وربما جدي ، تظلّ الدنيا تلف بنا في

قاعات الدرس  ، ولا تجد إحدانا نفسها ، إلاّكما هي بذات الملامح وبذات الشجون .

كبرتُ وأصبحتُ شابة ، وتخطيتُ مراحل من عمري ، ويد مدرس الجغرافيا ذاك ،

لازال ثقلها يجثم على رأسي ، لم أكن إلاّ لأؤمن  من أنَّ أي إنسان في وطني ،

 لاتتعدى  حياته عن قصيدة شعر، أو قصة ينسج أحداثها بلا تحكم منه ، يؤديها

بتفاصيلها الغريبة ، ولا يدرك أياً من وقائعها .!

وهاهي الشهادة الجامعية أطويها ، خجولة مسكينة ، بين أوراق وملفات ملاحم دراستي

،أركنها في أرفف رتيبة على جدران غرفتي في بيتنا العتيق ، وأمي الحبيبة تصرُّ أن

 تضع صورتي عليها وتقول لي : سوف تكبر هذه المكتبة وستكبرين معها ، كانت

تطيل النظر إليها وتكمل بأدعية وبتمتمات ، كنت أحسّ وأدرك مبتغاها ، ولكن مفردات

 قصيدة الشعرالتي تدندن بداخلي لم تكتمل حينها ، ورغبة الأم الحنونة ، كنت أراها تئنّ

بزفرة حارة طويلة ، تخرج من أعماق جوفها ولا حيلة لي فيها ولا معها ....!

هل هي خارطة اليونان ؟....هل هي عظام أصابع اليد المتناثرة ؟ هل هي خارطة حياة

أي منا ، في هذا الوطن الذي بدأت تزداد فيه موجات الإضطراب  ، وتأخذ منحى القتل

والتدميرالهمجي في كل شيء ...؟.

...................................

قذفتني أمواج البحرالمجنون إلى أحد شواطئها ، وما رأيت نفسي إلاّ ورجل يشاركني

تنفس الحياة ويستقبلني بالتهاني، يقول لي : أنت أجمل هدية قذفتها الأمواج هذا الصباح

أمواج ليلة حالكة الظلمة ، شديدة البرودة ، قاسية الصحبة موحشةالعشرة .

سألته بعدما استعدت قواي : في أي مكان من العالم أنا ؟

أجاب : ألا تعرفين ؟ نحن على شاطئ أحد جزر اليونان !!

تملكتني ضحكة رغم المأساة التي أعيشها ، ثم بكيت كثيراً ، وانتظرني حتى أفرغت

مابداخلي  ، وبادرني بتعريف عن نفسه : وليد عبد السلام من سوريا .

علّقت بسريرتي : بل أنا الوليدة سلمى!!.

أخذني إلى غرفة باردة طويلة ، مليئة بالطاولات الحديدية ، وأشار إلى جثة وحيدة على

إحداها ، وقال : هذا الشاب قذفته الأمواج معك ،وليس معه شيء يعرف به ، لملمت

شجاعتي ونظرت إليه ، تفحصته وتذكرته ، إنه( نبيل) كان معنا في القارب المطاطي

، ولكن أين رفيقه ، أين الرجل أبو بسام وزوجته وطفليه ...؟ أين الشاب مفتول

العضلات الذي أبكانا بمواويله وعتاباته الحزينة ؟....

دارت بي الغرفة وتداخلت أركانها مع بعضها واختفت الأشياء من أمام ناظري .

ومرة أخرى كنت على موعد مع صحوتي ، برؤية هدايا الأمواج ، ولكنها كانت

في هذه المرة مشوهة بشكل مريع ، لكن وليدعبدالسلام والفريق الطبي معه ، قد

استدركوا ماحصل لي أول مرة ، فلم يلحّوا علي بتفحص الجثث ،وتجاوزوا التدقيق

بتقدير الأحجام ، ثم أخذت إلى غرفة ملحقة بالمكان ،نلت فيها قسطاً وافراً من العناية

الطبية والغذائية المركزة لأكثر من اسبوعين .كان خلالها وليد يتفقدني بين وقت وآخر

. ختم تلك الفترة بطلب خجول وبحياء واضح على محياه ، أن أرافقه في جولة مشياً

على الأقدام إلى خلف تلة كبيرة مشرفة على المكان الذي نحن فيه . وقفنا معاً على

أعلاها وأشار بيده إلى سهل منبسط ممتد  تتناثر فيه قطع من الأحجار البيضاء شبه

منتظمة الترتيب وكثيرة تعد بالعشرات ونحن على بعد منها ،بادرني قائلاً :

من أجل تلك الأحجار جئت بك لتريها ،ولتكوني شاهدة عليها ، ولا أعلم لماذا ينتابني

هذا الإصرار ، فأرجوا منك رجاء حاراً أن تعذريني ، ثم تابع ولم يتوقف ليسمع مني

رداً على طلبه :

هناك دفنت بيدي هاتين كل ما قذفته أمواج البحر من جثث ، وتحت كل حَجَرة ترينها

جثّةً أو اثنتان ، وأحياناً قطع غير كاملة وربما مختلفة ، أدفنها مع بعضها بقبر واحد.

أشرت إليه بيدي ، ورجوته بالتوقف ، قبل أن يصيبني شيء ما ، لم أعد أحتمل غليانه

بداخلي :

وبعد صمت تملكتُ إرادتي واستعدتُ نَفَسي ، سأ لته سؤالاً ساذجاً :

هل صنعَتَكَ دفن الموتى ؟ .

وما أن انتهيت من سؤالي حتى رأيت صاحبي ، يجلس على الأرض ويأخذ بالبكاء

صُدمتُ ودُهشتُ بما حل به فجأة ، كان بكاءه أشد حرقة من بكائي ، ولم أجرؤ

من التقرب منه ، تركته حتى فرغ من نفسه  ، وأنا أرقبه وأنقل نظري بينه وبين

تلك الأحجار، دار في خلدي مباشرة يقيناً ،أن أعزاء له قد دفنوا هناك لامحالة ! .

لكنه زاد فيّ الدهشة والإعجاب معاً عندما عاد إلى هدوئه المعتاد ,كأنه يجيب على

 سؤالي :

أنا وليد قاسم عبد السلام ،بكالوريوس هندسة ميكانيك ، هاجرت مبكرا من سوريا

ليس لي أهل ولا عائلة كنت أعزباً مفرداً ، وقد حل بقاربنا ماحل بك ،ولما رأيت نفسي

هنا في هذه الأرض الغريبة وحيداً ، وقد أنعم الله علي بالحياة ، بقيت هنا ونذرت نفسي

لهذا العمل الذي ترينه ، اغسل الموتى وأكفنهم وأدفنهم ، وأقرأ عليهم الأدعية ، أياً

كانوا وأكثرهم بلا هوية ولاإسم سوى الارقام التي أريتك إياها . !

لم يفتني وهو يتحدث عن عمله ، أن أعترضه بسؤال :

- والأحياء أين هم ؟ .

- أساعدهم وأرشدهم ليكملوا طريقهم نحو الشمال . ثم استدرك مغزى سؤالي وتابع :

نصيحتي لك أيتها الهدية الجميلة ، ألاّ تكملي بمفردك ، انتظري حتى ترحلي ضمن

 مجموعة مختلطة من العوائل رجالاً ونساءً ، لتكوني بأمان من كل شيء .

........................

بعد مضي ثلاثة أسابيع وضّحَت الصورة الشعاعية لرئتي خلوها تماما من أي سوائل

وأصبح تنفسي عادياً ولم أعد أشعر بأي ضيق فيه ، لكن الطبيب لم يحررني من

مراقبة المستشفى الميداني ، ليطمئن على سلامة وظائف الكلى ، كنت أخضع

لساعات من التنويم القسري ، وربط التغذية الوريدية ، إلاّ أن وضعي منذ أيام

في غرفة عادية ملحقة بالمركز، أكد لي سلامة صحتي تماماً ،وقد أتاحت لي

مشاركتي مع وليد لبعض أعماله اليومية ، أن أنسى نفسي شيئاً فشيئاً ، وخاصة

في ظل ازدياد تدفق المهاجرين ، وكثرة الغرقى والمصابين  .

وذات ساعة لا أعلم إن كانت ليلاً أم نهاراً ، وبعد عمل شاق مضني كان متحفاً

بكل الحالات الخطرة المخيفة ، استسلمت لنوم لم أعرفه منذ أربع سنوات ،

استيقظت على محاولات من الطبيب ، وممرضتين ومعهم وليد ، ولمّا تأكدوا

من سلامتي ، أعلموني بأ ن هذا مساء اليوم الثاني من نومي ، ولم تطل بهم

المحاولة بعد أن زال قلقهم علي ، حيث أخذوني إلى مائدة ، فوجئت من تنوع

أصنافها ، فهمت  من تكرار بعض العبارات ، أنها من إعداد وليد ، وأنها كانت

لتوديعي ، فغرغرة تغرق بها عينيه ، لم يقدر على إخفائها ، وتهدج صوته ،

وبلع ريقه بصعوبة بين كل كلمة وأخرى ، كافية لتبيان تأثره البالغ ، أعلمني

بتكون مجموعة كبيرةمن الرجال والنساء ، تتهيأ للمغادرة في الطرف الشمالي

 للجزيرة ، وقد أحضرلي لباساً خاصا وطعاما وهناك سيارة ستأتي في أول

 ساعات الصباح لتقلني إلى هناك .

لم يكن ذلك الصباح المرتقب بعيداً أبداً ، لكن الطريق إليه أصبح طويلاً ، حيث

أخذت ساعاته تتباعد عن بعضها ، ودقائقه تتباطىء في مشيتها ، وعاد رأسي

يئن من ثقل يد معلم الجغرافيا ، وعادت صورتي على رفوف مكتبتي الصغيرة

 في بيتنا المدمر، تتلألأ أمام ناظري ، ارتفع صوت أمي الشجيّ، وأخذ يزاحم كل

الصور والأصوات .

هاهي تمتماتها وأدعيتها تشق السكون الزائف ، علا صوتها وأخذ يضرب مسامعي

يردد : ستكبر مكتبتك وستكبرين معها ياسلوى !! .

مسكينة أمي ، لم تكن تعلم بخارطة اليونان ، ولا بعظام أصابع اليد المتناثرة ،

ولا بيد الأستاذ حين وضعها على رأسي ، أين أنت الآن يا أمي الحبيبة ، تعالي

 لترين ابنتك الوحيدة سلوى ،ما حلّ بها !! مسكينة أمي لقد قضت في بيتها وهي

 تحرس ذكرياتها ، تدمير أرعن جاء على كل شيء وجعل كل حياة هشيماً في طرفة

عين . أمسكت رأسي بكلتا يدي وأخذته وأسندته على ركبتي ، حتى أخفف من ثقله ،

وأنا أجلس القرفصاء متكورة على نفسي ، أغالب تصارع الضجيج في ذاكرتي ،

مع ضجيج موج البحر الهائج هذه الليلة الثقيلة .

....................................

قلت في نفسي ، لمّا رأيت سيارة نقل المرضى والمصابين ، جاثمة أمام الغرفة ،

ولم أسمع هدير محركها : منذ متى  تقف هنا ؟ولماذا ؟

لم تطل حيرتي ، حيث سمعت صوت وليد آتياً من داخلها ينادي:تعالي من هنا

 ياسلمى !! وكان يجلس خلف مقودها !!.فزاد من حيرتي !!.

كانت هي الساعة الوحيدة التي نمت فيها بعمق ، كافية لإعطائي دفقاً من القوة

والصلابة ، تجعلني أصمد الآن أمام وليد ، وأن أفرغ ماتجمع في خلدي وقناعتي ،

 طيلة ستة أسابيع مضت ، عشت فيها كل ألوان الحياة الحقيقية ، والتي كانت

مقهورة وموؤدة طيلة ملاحم دراستي ونشأتي جميعها !! .

كان قراراً مجبولاً بالحب والوفاء ، ولا رجعة عنه ولاتردد ، اشتَرَكَت فيه كل

مااعتمل في داخلي ، مع ماقدمه كل من يعمل في هذا المكان ، بما فيهم وفي

مقدمتهم هذا الانسان الذي يسمي نفسه وليد .

بادرته بشجاعة مثل تلك التي أوصلتني إلى هذا المكان :

أنا سلوى وهذ اسمي الحقيقي الذي أهداني إياه أبي وأمي ، وسلمى اسمٌ

ادعيته لما رأيت نفسي سالمة بين أيديكم ، لن أبرح هذا المكان أبداً مادمت إلى

جانبك !! سأعمل معك ومثل عملك ، وأنا طوع أمرك منذ هذه اللحظة ، وإن

 شئت فإني أهب لك نفسي ، زوجة مخلصة على ماحلل ربنا وحرّم ، ومهري

هو قبولك لي ، مخلصا مؤمناً بما نفيد به هؤلاء المهاجرين المساكين ،موتى

 وأحياء والله شهيد علينا !! .

وسوم: العدد 663