الجاموس مار
في نومي رأيت عيروض بعد أن انقطع عني مدة لم أره فيها.. فقلت من فوري:
ـ مرحبا عيروض.. ما الذي شغلك عني؟
ـ شُغلت عنك لأسباب تتعلق بنا نحن قبائل الجن، فالعفاريت الذين هم مثل محدودي الدخل عندكم يسبِّبون كثيرا من المشاكل لفقرهم وعوزهم، والشياطين وهم مردة كفرة لكنهم يتظاهرون بالصلاح والتقوى، وأمثالهم عندكم كثير.
ـ هل ما زلت تذكر وعدك الذي وعدت به عن تبيان ما خفي عن جامعة كان كان؟
ـ نعم، وسوف أحدثك عن رأُس الفساد فيها، وفي جمهورية فاسكونيا، وكل جمهوريات سكسونيا، فهذه جامعة تعتنق مذهبا شاذا مفاده: نسبة الخير والشر إلي الله تعالي، وأن الله يريد كل شيء حتى المعاصي والفقر والتخلف.
وهو مذهب فاسد دمَّر كل البلاد التي تتغذَّى على علم هذه الجامعة، ولذلك ترى عطفا
عليها من أعداء فاسكونيا وسكسونيا وغيرها، فيرسلون لها المال والمساعدات كل
عام حتى تقود قاطرة التخلف العلمي، والسياسي، والاقتصادي، بما تنشر من فكر
قد يخالف كتابها المقدس في أحيان كثيرة، ولك أن تعلم أن الأداء العلمي في هذه الجامعة قائم على الحفظ والتلقين منذ الطفولة وحتى الوصول إلي درجة الأستاذية، فترى الأساتذة فيها يشْبِهُون أشرطة الكاسيت التي بدأت تختفي بدورها، واستُغْنىَ عنها بالفلاشة الذكية، إلا أن الفلاشة إمكانياتها أكبر بكثير من معلومات هؤلاء الأساتذة الذين دمروا حضارة أمتهم، بفهمهم السقيم لدينهم، والأدهى والأمّر الاستعالة بهذا الفهم على الآخرين.
هذه الجامعة نشأت في مدينة قهرامار بشمال غرب الهند منذ قرون وقرون وما تزال قائمة تعمل وتؤدي رسالتها كما قلت لك في تحقيق الضرر لمجتمعها وللناس من حولها.. وتسألني لماذا؟ فأقول لك يا إنسان:
ـ لأنها تحمل عدة مصالح طبقية للعاملين بها بعد أن رسَّمُوا أنفسهم علماء أبرار أطهار أنقياء، وأمرهم هذا قد انطلى على العامة والدهماء من الناس.
خذ عندك مثلاً الكائن الذي يسمى "جاموس مار".. هذا الرجل الذي يجسِّد جانبا كبيرا من الانحرافات العلمية والأخلاقية والدينية في جامعة كان كان.
ولد في إحدى القرى، في شمال فاسكونيا عام 130 ق. م، وعندما بلغ الخامسة من عمره أرسله أبوه – وكان من علماء كان كان - إلي مكتب القرية ليتعلَّم القراءة، والكتابة، ويحفظ الكتاب المقدس، وبصعوبة حفظ شزرات من هذا الكتاب، لأنه منذ دخل المكتب، وصاحب المكتب وزملاؤه يقرِّون له بالغباء الأسود، وخشونة السلوك، ومع هذا انتقل من المكتب إلي الدراسة الرسمية واجتاز المرحلة الابتدائية والثانوية، وذهب للجامعة، بفضل رعاية زملاء أبيه له، وإعطائه كل الدرجات اللازمة للانتقال من عام إلي عام .
وفي الجامعة، كان نجاح جاموس مار مؤكد كل عام، فانتهى من مرحلة الجامعة، وانتقل للدراسات العليا في قسم "فصول الفول"، ونجح ببركة الوالد ـــ مع أن هذا الوالد لا ينجِّح أحداً من أبناء الناس العاديين ــ وطُلب من جاموس مار إعداد بحث من سبع صفحات للحصول على "الماجستير" فلم يستطع، فأوصى أبوه طالبا، من الذين يبحثون في" فصول الفول" بعمل الماجستير لابنه مقابل أن يجيز له أوراقه، وحصل جاموس مار على " الماجستير " وفي " الدكتوراه " وقع في "حيص بيص"، فهو لم يتعود علي الفهم طيلة حياته، بالإضافة إلي غبائه الطبيعي وبقى خمس سنوات لا يستطيع كتابة ورقة، وعلق أبوه بحث زميله الذي أعد له الماجستير، قائلاً له بحزم:
ـ إما أن تنجحا معا، أو تظلا معا، بدون دكتوراه!
تفتق ذهن الزميل عن فكرة جيدة، طالما أن الأمور تمشي في هذه الجامعة بعيدا عن العلم، والعدل، وكل شيء يتم بتقبيل الأيادي، فلا بد من حل يتناسب مع هذه الظروف المنحطة!
ذهب هذا الزميل إلي المكتبات يبحث فيها عن كتاب في "فصول الفول" حتى عثر علي كتاب يناسب عنوان رسالة جاموس مار.. المهم اشترى الكتاب ونزع جلده
الخارجي فقط، وقام بتجليده، وأعطاه لجاموس مار.. وقال له:
ـ اقرأ واستعد للمناقشة.
قرأ جاموس مار، وحفظ بعض العبارات والقضايا، وتمت المناقشة، ومنح درجة "الدكتوراه" بالمرتبة الأولى، وبدأ والده يساعده، وعلَّمه كيف ينافق العلماء والمسؤولين في الدولة، حتى وصل إلي درجة عميد، ثم رئيسا لجامعة كان كان!
في طريقة سير الـ جاموس مار في الجامعة خاصة في الدراسات العليا، لم يضع درجة نجاح لطالب في حياته، وكان إذا اضطر لذلك يطلب من زميل له أن يضع الدرجة للطالب، وكان يقول ــ ببجاحة لا يحسد عليها ــ لا يوجد طالب أستطيع أن أعطيه درجة النجاح!
ساد الظلم وعم الفساد، فالجميع يعرفون أنه غبي، وأنه سارق، ولا أحد يتكلم.. أما طلاب وطالبات قسم "فصول الفول" فقد ذاقوا العذاب ألوان وألوان.. بعضهم تشبَّه بهذا الظالم، وهي قاعدة في علم النفس معروفة، وبعضهم دُمِّرت حياته، ولم ينجح في الدراسات العليا مع أنه أفضل وأذكي مليون مرة من أمثال الـ جاموس مار، وفي الفترة التي اعتلى فيها صدر الجامعة وبطنها كذلك، اختفى العدل وقد استبدلوه بنوع من النفاق سموه الستر.
وفي يوم من الأيام جلس أحد الأساتذة واسمه طاهر مار، مع جاموس مار، وكان لهذا الأستاذ مطلب وحيد، وهو الشفاعة لإحدى السيدات لكي تحصل علي رسالتها التي يشرف عليها جاموس مار، وكانت السيدة قد تأخرت ثماني سنوات في رسالتها، لأن خلقها منعها من تقبيل أيدي وأقدام جاموس مار كما يفعل غيرها، فرفض جاموس مار شفاعة الأستاذ وأهانه في مكتبه وقال له:
ـ أتشفعون في العلم؟، أنا لا أقبل شفاعة في العلم!
عند ذلك انفجر الأستاذ وقال له بكل غيظ يمكن لبشر أن يقذفه:
ـ مالك أنت والعلم يا لص، أنت سارق الماجستير، وسارق الدكتوراه، ولا تفهم شيئا في العلم، أنت تتسلَّط على رقاب الناس بسبب النظام الأغبر والزمن الأغبر.. إن ضحاياك بعشرات الآلاف، وتلاميذك علمتهم الظلم وبدأوا ينشرونه في كل مكان .
المهم.. قام الأستاذ الدكتور طاهر مار برفع دعوى أمام المحكمة تطالب بسحب "الدكتوراه" من جاموس مار، لأنه سرقها من فلان، وأحضر النسخة الأصلية، وتاريخ الطبع موثق من دار النشر، وشهادة أبناء المؤلف ــ الذي تُوفِّيَ قبل ذلك ــ ولم يجد القاضي مجالا للمجاملة، فأصدر حكمه بسحب الرسالة، وما يترتب عليها، واستأنف جاموس مار، ومعه جيش من المحامين الدكاترة، وبدأ الضغط علي قضاة محكمة الاستئناف من المسؤولين في الدولة، بالإضافة إلي المسئولين في جامعة كان كان، وأفتى العلماء للمسئولين وللقضاة، بأن الستر مقدم علي العدل، وأن فضيحة الـ جاموس مار هي فضيحة للنظام بأسره، فقام القاضي بتحويل الرسالة إلي ثلاثة من كهنة الجامعة، من نفس قسم وكلية جاموس مار، فانتهوا إلي أن جاموس مار اقتبس ولم يسرق، وأن هناك فارق بين السرقة والاقتباس، وبناء عليه ظل جاموس مار في مكانه يُنكل بكل الناس، يُرسِّب كل الناجحين في قسم "فصول الفول" وأرسى مبدأ سارت عليه جامعة كان كان هو أن الستر مقدم على العدل، فكل من يقبل الأيادي والأحذية يفعل ما يشاء، ولا يحاسب، أما الذي يعتز بعلمه، ويريد أن يضيف شيئا لمصلحة الجامعة والوطن، فمصيره الطرد من الجامعة، أو التقذيم، أو كلاهما معاً.
ومن المدهش أن هذا الرجل الجاهل اللص، أصبح مثلا أعلى في هذه الجامعة التي لا تعقل ولا تتعقل شيئا، حتى بعد تركه لرئاسة الجامعة أصبح يعمل في اللِّجان التي تقرر مصلحة المؤسسة العريقة.
عند اقتراب حياة جاموس مار من النهاية، جلست أمامه طالبة في الامتحان الشفهي وكانت هي قرة عين أهلها وزملائها، فسألها ما هو ترتيبك علي الكلية؟
ـ أنا الأولى علي كليتي، وعلي الجامعة.
ـ وتريدين أن تنجحي؟
ـ إن كنت أستحق.
ـ لا لن تنجحي من أول عام ولا الذي يليه، أو بالتحديد لن تنجحي طوال حياتي.
انهارت البنت وخرجت، وأقام أهلُها ما يشبه سرادق العزاء لنكبتها، وفي صلاة الفجر سألت ربها أن ينتقم من هذا الرجل انتقاما سريعا، قائلة:
ـ يا رب إن هذا الرجل قد أخرجك من معادلة حياته، فأخرجه من الدنيا ملوماً مذموماً مدحوراً .. يا رب.. يا جبار يا منتقم.
في اليوم التالي كان جاموس مار يتريض علي الرصيف فداهمه ثور فأوقعه علي الأرض، وكسر ساقه، وتم إسعافه في أفضل المستشفيات، ولكن الساق تعفنت، وحدث بها غرغرينة، وذهب إلي الخارج على حساب الجامعة، ومات هناك بعيداً عن الأهل والمناصب، والكيد للناس، وسرقة أحلامهم.. و آمالهم.
وسوم: العدد 663