نوبة غياب

عصام الدين محمد أحمد

أبحلق في وجه أمي – يتجسد الزمن في تجاعيد التراكُم... تسبح عيناها في اللاشيء ... يتماوج قدها المنثني مع اهتزاز أحبالها الصوتية.. أناغيها بالقول

- وحدي الله .

تتمتم بهمهمات غير جلية لتقول :

- الزمن " هسترياً "

يعتورها صمت مُفزع .. أخاف عليها السرحان... تعود إلى لحظات تؤرقها : " يضجع في وهن .. ينعى وجوده بدنو الأجل .. يحتار في تفسير رؤياه... يناوشه شريط حياته ... يطبطب على وجهي بيد واهية .. يقول مُتمهلاً : ستتعين... يتلو الشهادتين . "

أحسن بوطأة معاناتها .. تترقرق دمعات على خديها .. أزمع التسرية عنها :

- أتذكرين " رتيبة " ؟

تنطق بصعوبة :

- جبل الأحزان .

أتمنطق الحكمة :

- بل مُرتزقة الأكفان .

   تأمر في حزم :

- أسكت يا فيلسوف الغبرة .

   أذكر مأثورتها :

- تعلقُم بلح النخيل ‍‍‍‍‍ ‍‍

- معذرة .. تركها زوجها وحيدة... تـُناطح الملل والعوز.. تزوج أبنها الوحيد القاهرة .. افترسته القاهرة بمخالبها التي لا ترحم .

  أرنم بعضاً من غناءها :

- مال الولية نشعها مايل 

مالهاش ولد بين الرجال شايل

- تجهش بالبكاء .. تدفن رأسها في عبها .. تجبر يداي ظهرها المتوكأ ... تبعدني بيديها .. يرتجع جسدها .. لن يُـفيد معها الكلام .. هكذا أسررت لنفسي .. أجلس قبالتها ... أستظرف القص :

- ذهبت لرؤية مولد سيدي أبي القاسم .. هرج ومرج يعُمان الرواد ... بائعو " العنادي" ([1]) وسلاسل الفضة يصيحون على بضائعهم .. يتلف حول مقامر النرد الصبية ... يكتظ سرادق " المنى فاتورة" بالمُتفرجين .. أهرع إلى لوحة التنشين .. أمسك بالبندقية .. أتمثل " البومب " نثريات التأزُم .. أرشق الكبسولات الثلاث في قلوبهن .. يرفض صاحب اللوحة استمراري في اللعب ... يسترعيني زحام شدشد .. أقترب مُستكشفاً الأمر .. يسد الباب أفندي مائع .. يُجمع المحصول ... ألامس – بعد جُهد جهيد – خشبة المسرح لصيقة الجدار الجيري... تتمايل راقصة مُكتنزة في غواية .. ينفعل لابس الجلباب ذي الأكمام الفضفاضة .. يرفع خرقة الرقص عن جسد عار .. تستره نتوءات اللحم ... يزعق مُنبهراً : -

- القحبة لحمها كالمهلبية يا " بوي "

تنفرج أساريرها لتعلق :

- حاسب عليها يا مرقصها 

مالهاش ولد أوعى تعريها .

  تنغرس في شبق الشقاء : " تعجن دقيق القمح في بطن الماجور الضخم... تتفل " المقارص ([2] ) بالردة .. تقرص أرغفة العجين ... تقـُب الأرغفة بأيادي الشمس .. تبرزها بعود البوص ... يشتغل الوقيد المنثور في موقد الفـُرن ... تتأجج النيران بغـُبار النشارة .. تعمم رأس " البشكور" بخرقة مُبللة .. تمسح  أتربة بلاطة الفـُرن .. زمهُر الفرن ... تقذف الأرغفة بالمطرحة فوق البلاطة.. تحمر أوجه الأرغفة ... تسحبها بالبشكور .. ترصصها على طبق الخوص .. تتوالى العمليات إلى أن تنتهي من الخبيز .. تكشط " اللاصة " ([3]) من أرضية الزريبة ... تغطيها بالأتربة الجافة المخلوطة بالقصل .. تهرول إلى الطبخ . "

تشعُر بوجع عظام الملازم لها- أتلقن لأبنها الطبيب ذائع الصيت ... بوق الهاتف يعلن : لا أحد بالمنزل .

([1] ) عنادي : مفردها عندية وهي أسورة من البلاستيك

([2] ) مقارص: مفردها مقرص وهو قطعة مستديرة مبسوطة من مخلفات البهائم

([3] ) اللاصة : مُخلفات البهائم

تمت بحمد الله

وسوم: العدد 664