التي جمحت !

هدوء مطبق , سكون عميق , صمت يغلف المكان , لا شيء يتحرك في تلك الغرفة , حيث تجلس على سريرها , محدقة في النافذة امامها , وضعت كلتا يديها على رأسها , انزعاجا من الطنين , طنين الفراغ , يخيل اليها ان رأسها على وشك الانفجار , فتحاول عبثا لملمة اجزاءه المتصدعة , خشية ان ينفلق على حين غرة , تغزوها من الداخل افكارا كثيرة , حوله , ذلك الذي لم يأبه بها , ولم يعرها أي اهتمام .

اما هو , لم يك في حالة مختلفة , بل كان يمر بنفس الوعكة , الالم , المرارة,  الا انه لم يحاول الاقتراب منها ولا لمرة , يظن ان في ذلك انتقاصا لرجولته , وخدشا لكبريائه .. كرجل , يكابر رغم مرارة الصراع الداخلي , بين العشق والكبرياء .

اقتربت منه عدة مرات , في اماكن وازمان مختلفة , جربت كل الطرق والوسائل لتجذب اهتمامه , ولو نظرة , بدت وسائلها وحيلها عديمة النفع امام حجر اصم , كلما ازداد في لامبالاته , أزداد جنونها , ما زاد في الطين بله , وما زاد في الصبر مرارة .

كاد يصرع في كل مرة اقتربت فيها منه , بل كاد يفقد عقله في كل حيلة من حيلها , لكنه كبت دواخله , واظهر صلابته , اخفى ضعفه , واظهر قوة زائفة , كان يتألم اكثر منها , كانت البراكين تغلي , ألا انه احكم الفوهة .

أعيتها الحيل , وتقطعت سبل الافكار :

-         لم اك له ... ولم يك لي .  

خرجت من البيت , بلا وعي , ولا شعور بالمطر , لم تدرك ما تفعل في هذه الليلة الدهماء الماطرة , ساقتها قدميها نحو جبل الصخرة , خارج المدينة .

كان يراقب الشارع من النافذة , شاهدها تخرج في هذا الحال , فتأجج به الفضول ليتبعها , لكنه كان جبانا , يخشى الظلام , والمطر , ابعد ناظريه عن النافذة كي لا يراها , فوقعتا على المرآة , هناك , حيث تصوّر له شيطان افكاره , سمعه يقول بكلمات متقطعة :

-         انها تخونك ... اتبعها ... لتكتشف الخيانة ... ومع من ؟ .

-         لا ... لا ... لعلها ذاهبة لتحضر شيئا ما ! .

-         يا غبي ... أي شيء ستحضره في هذه الساعة من الليل ... وفي هذا الظرف المناخي ؟ .

-         لعلها ذاهبة لتحضر الطبيب من اجل امها المريضة ! .

-         يا لك من معتوه ... طريق الطبيب من ذلك الاتجاه ... وهي ذاهبة نحو جبل الصخرة ! .

-         لا أعلم .

-         انك جبان .

-         كلا ... لست جبانا ... لكني رجل ... املك من الكرامة ما يحصنني من التهافت على النساء .

-         ما هو مفهوم الرجولة كما تفهمه ؟ .

-         الرجولة ان ...

قاطعه قبل ان يكمل :

-         بل انت جبان ... تخشى من الرجل الذي تخونك معه .

-         لا ... لا .

-         اذا .. برهن على شجاعتك  ... على رجولتك المفقودة ... اثبت وجودك ...

-         كيف ؟ .

-         خذ ذاك السلاح ... واقتله ... او اقتلهما معا . 

تردد كثيرا , لم يفلح بالرد , خانه لسانه , فأردف شيطان الافكار :

-         هيّا ... لا تخشى شيئا ... سوف اكون معك ... مؤازرا ! .

تناول السلاح وانطلق في اثرها , حالما خرج من غرفته , دوّت ضحكات شيطان الافكار الخبيثة في المكان , رددت الجدران صداها , رغم ذاك , لم يك قد سمع منها شيئا .

رغم الظلام , وانعدام الرؤية , تمكنت من تسلق الجبل بمساعدة الاضواء القادمة من مصابيح المدينة , توقفت للحظة , ألقت نظرة فاحصة على الطريق , لم يك هناك احد يتعقبها , ثم رمقت المدينة بنظرات بائسة , يائسة , واستمرت بالتسلق حتى وصلت الى تلك الصخرة .

وصل هو وشيطان افكاره الى الجبل توا , خشي التسلق , فقد أمست ممرات الجبل زلقة بسبب ماء المطر , فكر في العودة , الا ان رفيقه اعترضه :

-         لقد كدت تصل ... ها هما هناك ... ألق نظرة لتعرف ما يفعلان .

-         لكن الممرات زلقة ... واخشى الوقوع في الوادي ! .

-         مجرد عذر واه ... اذا كيف سلكا الممرات هما ؟ ... هناك دافع اقوى من الخوف ... العشق المجنون ! .

-         لعلهما صادقين في عشقهما لبعضهما .

-         تلك اعذار الجبان ... هيا ... أيها الرجل الوحيد ... في تلك المدينة .

سلك الممر المؤدي الى الصخرة , التي تكمن دون القمة , بهمة واندفاع تحت تأثير همسات رفيقه .

كانت تقف على الصخرة , تستنشق الهواء الرطب , نسيمه يداعب شعرها , كان له تأثير ساحر , حتى انها عادت الى رشدها , فجأة , انتبهت الى وجود رائحة تألفها , قد نقلها النسيم لها , لم تصدق , انعطفت لتكتشف وتتأكد , ألتفت التفاته سريعة لتنظر الى الممر , التوت قدمها وانزلقت , فهوت في الوادي .

لم يك قد سمع صراخها وهي تهوي , فقد كان في الجهة الاخرى , ناهيك عن صوت الرياح وحفيف الاشجار , بعد جهد جهيد , وصل الى الصخرة , المكان المطلوب , لم يجد احدا هناك.

-         لا أحد ! .

-         كلا ... أكنت تظن ان يلتقيا هكذا ... لابد وانهما قد اختبئا في مكان ما ! .

-         أين ؟ .

-         لا اعرف ... اكتشف بنفسك ... قبل ان ينتهي اللقاء .

-         من اين سأبدأ البحث ؟ .

-         من هناك .   

شرع بالبحث , بخطى متثاقلة , مترددا فيما سيقول لو وجدهما معا , وبماذا يجيب ان سألاه "ما شأنك انت؟" , واشياء اخرى كثيرة , لكن رفيقه بدا كأنه يعلم ما يدور في رأسه .

-         استمر في البحث دون ان تفكر بشيء ... سوف تكتشف المفاجئة الكبرى ... هيّا .. هيّا اسرع ! .

حاول التوقف عن التفكير , لكنه لم يفلح , تحت الحاح رفيقه , اسرع في خطاه , غير عابئا ولا مكترثا بالظلام , ولا بالممرات الزلقة , كان لإلحاح الرفيق اثرا في غليان دمه في عروقه , أخرج السلاح من جيب سترته , واستمر بالبحث الجاد , اقترب من الصخرة الزلقة دون ان يتوخى الحذر , و دون ان ينظر الى موقع قدميه , مع انه على الحافة , الا انه لم ينزلق , كان رفيقه يرقبه ان يتقدم اكثر او ان ينزلق , شيئا من ذلك لم يحدث , بل فكر بالعودة الى البيت , طلبا للسلامة , نفد صبر شيطان الافكار , فطلب منه ان ينتظر لوهلة , التف من خلفه , ثم دفعه ليهوي في الوادي ! .   

وسوم: العدد 666