فورمالين

د. محمد أبو زيد الفقي

في حي من أحياء القاهرة، كان يعيش الحاج مسعد ملك الألبان، يجمع الألبان من القرى المجاورة للقاهرة، ثم يوزعها علي المحلات، والمنازل، ثم اكتشف بعد فترة  أنه لو صنعها، وحوّلها إلي جبن  فإن ذلك سيعود عليه بالربح الوفير، فاستأجر محلا كبيراً، وحوله إلي معمل لإنتاج جميع أنواع الجبن، وتزوج من قريبة له، ورزقا بثلاثة أولاد ذكور، مراد وهاني وحسن، وبدأت تجارته تتسع، فاشترى أرضاً، وأقام عليها  عمارة كبيرة، جعل الدور الأول فيها لصناعة الجبن، أما بدروم العمارة  فجعله مخزنا للألبان، والجبن، والدور الأول علوي جعله معرضا لمنتجاته، وبدأ تجار الألبان  يأتون إليه من كل مكان يبيعون ألبانهم له، بالإضافة إلي أنه أنشأ مزرعتين لإنتاج الألبان من أبقار مستوردة، وبرغم كل هذا الثراء إلا أنه  كان دائما  يرغب في المزيد  وبدأ يقبل الألبان الصالحة والمغشوشة.

من وقت لآخر كانت جبنة ملك الجبنة الحاج  مسعد تصيب بعض الناس بالقيء والإسهال، وكانت تُحرر له وزارة الصحة محاضر باستخدام لبن غير صالح في صناعة الجبن، ولكنه كان بأمواله ونفوذه يلغي أي مخالفة تحرر ضده، وفي أحد الأيام كان يحكي لأحد أصدقائه ما يحدث  له من شكاوى الناس وكفران نعمته عليهم   فهو ينتج لهم بسعر رخيص، ولكنهم لا يُقدرون كل ذلك.

قال له صديقه: إذا كان الملح والنار، لا يستران فساد اللبن، فعندي اقتراح يريحك من كل هذه المشاكل.

الحاج مسعد: وما هو؟

ـ تضيف قليلا من مادة الفورمالين، وهي كفيلة بالقضاء علي جميع أنواع البكتيريا                والفيروسات، ولن تُحرر ضدك مخالفة بعد ذلك.

الحاج مسعد: وهل في هذه  المادة  ضرر علي صحة الناس؟

الصديق: الضرر قليل، ومعدة المصريين تهضم الزلط، فلا تخف من أي شيء.

ومضى الحاج مسعد يصنع الجبنه بالفورمالين، والناس تتكاثر على مصنعه، ومحلاته  وكان لأكبر شارع في هذا الحي النصيب الأكبر من تناول هذا الجبن بكافة أنواعه. أنهى ابنه مراد التعليم الجامعي، وتعلق قلبه بزميلة له، وأحبها حباً شريفاً عفيفا، وأخبر والده برغبته في الاقتران بها، فرحب بذلك، وتم عقد القران، وتحدد موعد للزفاف  بعد عامين، حتى تكون سلوى قد أنهت دراسة الماجستير، وكان هذا هو شرطها، وشرط أبيها الوحيد، ووافق مراد لأنه لا يرى في الدنيا غيرها، ووافق والده الحاج مسعد علي مضض.

في يوم، وحسن الابن الأصغر عائد بسيارته من الجامعة، اعترضته سيارة قادمة من المخالف، فحاول تفاديها وانحرف بسرعة لكنه لم يستطع السيطرة علي السيارة بعد ذلك، فقفزت به في النيل  بقوة، وبعد ثوان استقرت به السيارة في قاع النيل، وهنا  تجمع الناس وأبلغوا الشرطة، وتم إخراجه بعد ساعات طويلة من البحث، وعندما رآه والده الحاج مسعد، أصيب بجلطة في القلب وسقط ميتا، وتم دفن الاثنين في مكان وزمان واحد، ولما علمت الحاجة تفيدة زوجة الحاج مسعد بغرق حسن ووفاة أبيه، أصيبت هي الأخرى بجلطة في المخ، وشُلَّت شللا رباعيا، وغادرت الدنيا بعد أسبوع لتلحق بأحبابها.

تعجب أهل الحي مما حدث للحاج مسعد وابنه وزوجته، وكانوا لا يعلمون عنهم إلا خيرا ً، وتقلصت الأسرة ولم يبق منها إلا مراد الذي تولى إدارة المصنع بعد أبيه  بنفس الأسلوب، وهاني الذي كان في نهائي طب أثناء هذه الحوادث الجسام . 

حاولت سلوى أن تخرج مراد من عزلته وأحزانه، فكانت تصاحبه كثيرا بعد أن ينهي  عمله في المصنع، واقترحت عليه رحلة نيلية يوم الجمعة من كل أسبوع، فكان يذهب  إلي بيتها لتناول الغداء مع أسرتها، ثم يخرجا بعد العصر في رحلة من حي شبرا إلي القناطر الخيرية.

وفي أحد الأيام  وهما عائدان في القارب الخاص بهما نظرت سلوى إلي أشعة الشمس  قبل الغروب، وهي تنعكس علي مياه النيل، لتصنع ألوانا متعددة، مثل اللون الذهبي والفضي في وقت واحد بسبب انكسار الأشعة علي أمواج الماء وهو يعلو فيكون ذهبيا   وعندما يهبط يكون فضيا، ولكن الأشعة أيضا في هذا الوقت ـ وقت الأصيل والغروب ـ يمكن تصورها ناراً ضعيفة تشتعل في حقل أحد الفلاحين البؤساء..

كل هذه المعاني تجمعت  في وجدان سلوى، وهي تجلس علي حافة القارب صامته تنظر تارة إلي خطيبها المحزون، وتارة إلي صفحة المياه التي تنطق بمعاني لا حصر لها، وفجأة قطعت الصمت الرهيب، وقالت لمراد: 

ـ ماذا تفعل لو سقطت منك في قاع النهر؟

مراد: سأسقط خلفك لأنني لا أتصور الحياة بدونك أبدا.

سلوى: يعني إما أن نغرق معا أو نعيش معا.

مراد: لن  أتركك تغرقي حتى لو تحديت القدر، وما أظن أن القدر قاسيا لهذه الدرجة.

سلوى: أسأل الله تعالى أن يرفع عنا الأحزان حتى  يجد حبنا سبيلا للأفراح التي حُرمنا منها.

مراد: يا رب.

نزلا من القارب في المكان المعد لذلك، وذهبت سلوى إلي بيتها، وعاد مراد، بعد أن  رافقها إلي مسكنها، إلي مصنعه، فوجده مغلقا  بالشمع الأحمر، وفي انتظاره عدد من رجال الأمن، وذهب إلي النيابة التي أفرجت عنه لحين الانتهاء من تحليل العينات في المعامل المركزية، ولما سأل عن الموضوع، قالوا له: 

ـ لقد كثُر عدد الذين أصيبوا بمرض الفشل الكلوي، ووصل في الشارع الذي يوجد به المصنع إلي ( 25000 ) خمسة وعشرين ألف مريض.

قامت وزارة الصحة بفحص الأطعمة والماء وكل شيء فلم يعثروا علي أثر ممكن أن  يسبب هذه الأمراض، وعندما شعر أحد مفتشي  وزارة الصحة  بالجوع ذهب إلي محل  واشترى ساندويتش  وتناوله فشعر برائحة لم يتعود عليها، فقام بتحليل الجبن الموجود بالخبز في المعمل فظهرت أثار مادة الفورمالين، وعندما عاد إلي المحل  وسأله عن مصدر هذا الجبن قال: إنه اشتراه من مصنع الحج مسعد!

عاد مراد من النيابة إلي سكن سلوى ليطمئنها أن الأمور على ما يرام، فوجد لون وجهها متغير، ولما سألها عن ذلك، قالت:

ـ بعد أن عدنا من القناطر، أُصبت بمغص شديد  وقيء وإسهال لا يتوقف، ولما نظرت إلي المرآة، وجدت أنني وكأني مريضة منذ عشر سنوات.

حاول أن يهون عليها الأمر، وقال سنذهب للطبيب غدا، وبعد فحوصات وتحاليل  اتضح أن سلوى مريضة بالفشل الكلوي، وفي حالة متأخرة، ولابد من غسيل كلوي لها.

ذهبت سلوى لأحد المستشفيات للغسيل، واستدعت النيابة مراد ووجهت له تهمة القتل الخطأ بعد أن اعترف عليه مدير المصنع بأنه كان يعلم بما كان يصنع أبيه في مادة الفورمالين، وبعد أن انتهى حبس النيابة المتكرر، وتحددت له قضية، طلب من مأمور السجن أن يزور خطيبته سلوى في المستشفى، وهذا هو طلبه الوحيد في الدنيا، وذهب مع الحراسة إلي المستشفي، ودخل غرفة سلوى وسألها عن حالها  فأشاحت بوجهها بعيدا عن عينيه، وقالت له:

ـ قلت لي ونحن في رحلة القناطر إنك لن تتركني أغرق  وحدي حتى لو تحديت القدر         وها أنت أغرقتني بيدك وأغرقت معي الكثير من البسطاء، إن كنوز الدنيا لن تنفع  يوم القيامة معك أنت وأبيك.

قال: والحب!

قالت: يغرق معي الآن؟ 

وسوم: العدد 668