بنت الشرطي

مها بنت شرقية شقية ، فيها سحر الشرق وجمال بنات سوريا ، العيون السود الكبيرة ، الشعر الأسود الحرير الطويل ، البشرة الحنطية الصافية ، الطول الجميل ، القوام الممشوق الرشيق ، تبرق عيناها ذكاءً وموهبة ربانية .. رقيقة القلب .. متفتحة العقل ، عاشت في زمن الإجرام الأسدي ، ربيت على الخوف منذ صغرها .. كانت تراقب خالها الملاحق من قبل قوات (الأمن) المخابرات السورية تراقبه بحب وحزن .. كانت تحبه وكأنه والدها .. وتتأثر كلما سمعت والدتها وهي تتحدث مع جدتها عن خالها عبدالله الملاحق .. وكيف تبكي السيدتان وهما تتلوان تراتيل من الدعاء والذكر الحكيم ليحفظ لهما الله ذلك الغالي الحنون الملاحق ..

كان أبوها شرطياً في مخفر البلدة الصغيرة .. وكان معها في نفس المدرسة بنت الباشا الكبير الذي يعمل والدها تحت إمرته .. مها في الصف الثالث الابتدائي ذكية نبيهة علاماتها كاملة متفوقة تخطف الأنظار بذكائها وحركتها ، أما ابنة الباشا فقد كانت غبية لا ذكاء ولا نباهة ، علاماتها في الحضيض ، ومع ذلك في كل يوم المعلمة تصفق لها هي والتلاميذ على أي درجة مهما كانت متدنية وعلى أي عمل مهما كان تافهاً ..

في أحد الأيام لاحظت المعلمة على مها أنها لا تصفق عندما يذكر اسم الرئيس حافظ أسد .. فاندهشت من فعلتها .. وهرولت نحوها تسألها :

ـ ما بك ؟ أجننت ؟ أكيد أنت غير طبيعية ..

قالت الطفلة بخبث :

ـ لماذا آنسة ؟

قالت المعلمة :

ـ أنت لا تصفقين عندما نذكر اسم القائد ..

قالت بشموخ :

ـ لأني أكرهه مثل ما أمي تكرهه ، وتغلق التلفاز كلما شاهدته ..

أمسكتها المعلمة من أذنها وسحبتها بعنف إلى زاوية من زوايا الصف وقالت لها بخوف :

ـ احمدي الله أني أحبك ولن أنقل ما قلته للجهات المسؤولة ، إياك أن أسمعك مرة أخرى تقولين هذا الكلام .. أو لا تصفقين للقائد ..

منذ ذلك اليوم والمعلمة متربصة من مها وتراقبها بحذر ، ومها تزداد كرهاً وحقداً للقائد ، وتزداد كرهاً لأعوانه وأولادهم ومنهم بنت الباشا التي ما فتأت تضايق مها بكلامها وتصرفاتها ..

في أحد الأيام مها عرضت على أمها عرضاً يبدو أنه كان غبياً في نظر الأم الشعبية المسكينة .. حيث قالت لها :

ـ أريد أن أكبر وأصبح زعيمة حزب سياسي كبير مثل خالي ..

هنا بدأت الأم الطيبة بالعويل ..

ـ مجنونة .. بدك تخربي بيتنا .. بدك تشردينا .. بدك يقتلوا أبوك .

ونزلت فيها ضرباً ذات اليمين وذات الشمال ..

خلصتها أختها من يد الوالدة بصعوبة ..

في اليوم التالي كانت مها مشحونة من أمها ومجتمعها والعالم أجمع .. دخلت الصف مستشرة والعنف يتطاير من عينيها الجميلتين ..

وزعت المعلمة أوراق الإملاء ، وكانت علامة مها علامة كاملة أما بنت الباشا فكانت متدنية ومع ذلك بدأ التصفيق الحار لبنت الباشا ..

فبكت مها ، أما بنت الباشا فقامت إلى حقيبة مها وبدأت تنبش ما فيها من دفاتر وتمزقها إرباً إربا ، حاولت مها أن تدافع عن نفسها وتقوم بضربها أو حتى منعها ، إلا أن المعلمة حالت بينهما ، بل وبدأت تصرخ في وجه مها وتوبخها ، فما كان من مها التي تملكها الغضب إلا أن تركت المدرسة وركضت إلى مخفر الشرطة الذي يعمل فيه الوالدان (الشرطي ، والباشا) .. دخلت المخفر فرآها أبوها وبدأ يركض خلفها ويسألها :

ـ مها ، مها ، أنا هنا يا بنتي .. ماذا تريدين ؟ إلى أين تذهبين ؟

والصغيرة تغذّ خطاها مسرعة نحو مكتب الباشا ، حاول الجميع إيقافها إلا أنها كانت أسرع وأصغر من أن تمسك .. دخلت مكتبه وقالت :

ـ مرحبا عمو لا أقول لك سيدي ولا شي .

وقف الباشا وضرب لها تحية وقال :

ـ احترامي سيدي مين حضرتك ؟

قالت بشموخ وقد أخرجت دفتر الإملاء لتريه إياه :

ـ شوف بنتك الجربانة إذا بتمزق لي ورقة مرة تانية رح أبعتها لك دمها طولها .. والآنسة تضربني لأني أريد ضربها وأنا المتفوقة وهي الجربانة الكسلانة بس لأني بنت الشرطي وهي بنت العقيد الباشا ..

قال لها :

ـ من أبوك ؟

قالت :

ـ الشرطي أحمد علي ..

سكت ولم ينطق بكلمة .. ثم قرع الجرس وهو ينادي بأعلى صوته :

ـ أحمد علي ، أحمد علي ...

كان والدها في الممر .. سمع نداء الباشا فأسرع نحوه .. رجلاه لا تكادان تحملانه من الخوف .. ركض نحو المكتب ، قرع الباب ودخل وركض نحو الباشا يقبل يده ويبكي :

ـ حقك على راسي سيدي .. والله لأقتلها .. والله لأربيها .. بس لا تغضب ..

سحب العقيد يده وقال بغضب :

ـ لا تضربها ولا تربيها ، هي أرجل منك ..

ثم أمر بشراء عدة دفاتر وأقلام لها ، ثم قال لها بعد أن صرف والدها :

ـ أي أوامر أخرى ..

قالت بشموخ :

ـ أحذرها من التعرض لي مرة أخرى وإلا فلن أدعها بحالها ..

وحملت نفسها وذهبت وهي تفكر :

ـ من علمنا أن الفقير عليه أن يسكت هذي أنا بنت الشرطي وأفتخر بنفسي ..

أما الباشا فوقف يفكر في ذهول بتلك الصغيرة الجريئة .. وشعر بخوف من جيل ربما يقود حرباً على الظلم ..

وسوم: العدد 677