أيام خريفية منسية

لم أكن أعلم أن مجلس العائلة أو غرفة المعيشة أو (أوضة القعدة) كما نسميها

هنا في مدينتنا، ستصبح يوماً بنافذتها الواسعة المطلة على شارع النهر مكاناً رحباً

لمشاهدة برنامج موسمي سنوي يبث حيًّا، وكما تبين لي في السنة الأخيرةأنه قصة

أخّاذة تقتصر مجرياتها في فصل الخريف فقط.

ولم أكن أتوقع يوماً أني سأساق شيئاً فشيئاً لأجد نفسي في وسط أحداثها، بل

وأكون أحد شخوصها.

كنت قد باشرت لتوي مرحلة جديدة من حياتي الدراسية، وهاهي البداية في السنة

الثانوية الأولى، وكل شيء تراءى لي كذلك مغايراً، وحتى أمي أخذت توكل إلي

أعمالاً أكثر مسؤولية مما مضى، ولا عجب مني أنني استشعرت فائدتها، فأبقيت

إحدى أهمها سراً، لمّا وجدت لذة داخلية فيّ لم أذقها من قبل!.

كانت (البلكونة) طويلة رحبة، تزين واجهة منزلنا المشرفة على الشارع المحاذي

للنهرمباشرة، ولها منفذان أحدهما من مجلسنا هذا، والثاني من المطبخ الملاصق

له، وفي هذه الأيام تتحول (البلكونة)إلى مصنع، كما يطلق عليها أبي، ملاطفاً

أمي لما تقوم به من تحضيرالأعمال الكثيرة والمتنوعة، من تجفيف لكثيرمن الخضار،

وتحضير بعضها لصنع المخللات، ومعجون الصلصة، ومعجون صلصة الفلفل

الأحمر، وعمل الزيتون بأنواعه، و(المكدوس) بكمياته، ذلك لما كان يقوله أبي أن

الزيتون وزيته، وباذنجان المكدوس والفلفل الأحمرلصنع معجون الدبس منه، يبلغ

ذروة طيب طعمهم في فصل الخريف هذا، فأرى أمي تنجز الكثير من هذه الأعمال

 في فترة غيابنا في المدارس صباحاً، وها أنذا أتسلّم مسؤوليتي في فترة العصر وما

بعده، فأتلقَّى توجيهاتها وتعليماتها، بعضها أنفّذه على مضض، وبعضها يكون سلساً

وسهلًا: اقلبي هذا على الوجه الثاني وارفعي ذلك، اخلطي هذا مع ذاك، وامزجي

المعجون جيداً، أفرغي ما في الإناء الصغير بالكبير المجاور له، وشيئاً فشيئاً

تعلّمت منها فوائد أغلب هذه الأعمال، وعند النضج تبدأ مرحلة التخزين،وبعدها

وبعد دخول أوقات استخدامها وتناولها،في الطعام الاعتيادي وإعداده للأسرة برمتها

نحصل على درجات الثناء إما تقريعاً، وإما مديحاً، ولا يغيب عن بالي جهدي،

ولا يغيب عن بالي طبعاً أن الفضل والثناء الحقيقي لمديرة المصنع أمي، وأن

المصدر الحقيقي والوحيد للثناء والتقدير هو أبي.

كان كل محيط بيتنا مألوفاً، وكل ما يجري في الشارع أمامه، ورصيفيه من الجانبين

اعتيادياً، وكنت أعرف أن هناك وجوهاً تروح وتغدو، لايمكنني تبيان ملامحها،

فالمسافة ليست قليلة،وكذلك كثافة الأشجارأحياناً، وطبيعة الطقس، كل ذلك يجعل

التركيز أمراً يحول دون معرفة من في الطرف الآخر، لكن هناك من كان

يقصد المكان؛للاستمتاع وقضاء وقت أطول، من مختلف فئات الناس، وكنت أرى

ذلك بأعداد تزداد تباعاً، من بعد العصر إلى ساعة لابأس بها من الليل.وكنا نحن

كذلك وبطبيعة وجود منزلنا وإشرافه على المكان كله، لايستغني أحد من أفرادعائلتي

عن الجلوس والاستمتاع، وكأننا نشارك أولئك بهجتهم، وخاصة أبي وأمي اللذين

 يحجزان مكانيهما كل يوم من بعد المغرب تقريباً على البلكونة، وفي بعض الأمسيات

يستقبلان ضيوفهما فيها أيضاً، ونحن من حولهما نتحرك أحياناً ونجلس الأخرى،

وكنا مطمئنينبجلستنا من أن يرانا أحد من الشارع؛لأن جدارالبلكونة العالي كان يقوم

بمنعالآخرين من رؤيتنا.

ومع كل هذه الرتابة التي تمر في يوميات حياة أسرتي اليومية، لايمكن إلاّ أن

يتوقف أحد أفرادها عند مشهد ما هنا أو هناك،في هذا الوقت أو ذاك، في يوم كذا

ليرىخاطفاً أو عابراً، ولا أستثني نفسي من ذلك أبداً.

فكثيراً ماكنت أطيل المكوث، وأسرق النظر إلى أولئك الناس،في مشيتهم البطيئة

المتمهلة، يذهبون في جهة ثم يعودون، أجد نفسي أراقب أحدهم يمشي بعجلة، ولا

أعرف لماذا، ثم ما ألبث أن أنظر إلى آخر بطيئاً، ثم بامرأة ثم بمجموعة، وكثير من

الأحيان تختلط المشاهد بأولئك الواقفين المصطفين على سور النهر، فيسايرني

الملل وعدم الجدوى من متابعة ذلك، أو أن إحدى السيارات الضخمة تمر فجأة،

أو أحد أفراد أسرتي يقطع عليَّ المشاهدة، إما بمناداتي أو بسؤالي عن أي شيء،

أو بمناكفتي أحياناً بأي حجة، فيقطع عليَّ ما كان ذهني أونظري منشغلاً به.

لكن ما كنت لا أصدقه، هو ما تجمّع أمام ناظري في ومضة برقت خاطفة سريعة،

حركة قام بها أحد المارة، هناك على الرصيف المحاذي للنهر، المقابل لمنزلنا تماماً

كنت خلف شباك غرفة القعدة العتيد، آخذ قسطاً من الراحة، بعد أن بذلت جهداً،

أساعد أمي في توضيب المجلس وترتيبه وتهيئته، كالعادة في مثل هذا الوقت من

كل عام، مثلما نفعل مع تحضير وإعداد الأطعمة والأغذية المجففة لموسم الشتاء،

الذي قد لا يعطي للخريف أياماً أكثر ليستمتع الناس به، فنراه يبعث بإنذاراته المبكرة

مما يربك نظام حياة الأسرة برمتها، وأول إنسان يستشعر هذه الإنذارات هي مديرة

البيت وربته، فتبدأ هي الأخرى بالاستعدادات المبكرة، ونحن من يُلقَى على عاتقه

تنفيذ أول تلك الاستعدادات، ولا أقول الأغذية ولا الألبسة وتوابعهما، وإنما أعني

غرفة القعدة بكل ما تحتويه، وهذا ما كنت الآن أقوم به، لكن التعب ذهب سريعاً

ولم يعد هو مايشغلني، ولا التحضيرات المقلقة لمنهاج دراسة السنة الثالثة الثانوية،

وكثافته وصعوبته، والذي باشرت به منذ بداية خريفنا، وها نحن الآن في منتصفه

تقريباً، وإنما ذاك الرجل وأظنه ليس كبيراً، أراه متسمّراً في وسط الرصيف

 يطيل النظر إلى الأرض،فيشير بيده إلى أعلى ثم إلى أسفل، ويكرر هذه الحركة

لمرات!!.مضى عليه وقت في نفس المكان، أخذ يلفت نظر كل من يمرّ من جانبه،

وها قد لفت انتباهي أنا أيضاً من هنا خلف النافذة، لكن شيئاً ما عاودني وألقى على

نفسي بظلال كآبة، فرميت بجسمي كله على الأريكة، وكأنَّ دوارًا ما أصابني.

بعد برهة استجمعت ذاكرتي وقواي معاً، فقفزت قفزة إلى النافذة مرة أخرى، حدقت

بذاك الشخص فلم يزل في مكانه وبهيئته.

أخذتْ فواصل المشهد تكتمل مع بعضها واحدة تلو الأخرى، عندما رحتُ في

استرجاع أشباه هذا المنظر الماثل أمام ناظريَّ الآن، شكراً لك يا أمي،أنت وحدك

ومواد مصنعك الصغير في البلكونة، صنعتما هذا الشريط الذي تُبَثّ الحياة فيه الآن،

إنه يتحرك! وتعاد لقطات أحداث قصصه في ذاكرتي، ما انطبع ومالمينطبع، ما

استوقفته ومالمأستوقفه، كل ذلك بدأت أحشره وأضغط عليه؛ لكي ينشط ويأخذ

موقعه بهمة عالية، في حكاية طالما استرقت النظرإليها، وأطلت التفكير بها،ولم

تحرك فيّ من قبل ساكناً، فما الذي تحرك فيَّ الآن؟ ما الشيء الذي طفى على سطح

تفكيري،حتى يأمر بتجميع تلك الصورلهذا الرجل المتشبث أمام منزلنا؟ بل أمام

نافذة حياتنا اليومية،ونحن...لا..أوأنا فقط !!.

كل الصور التي استذكرتها في دقيقة تزداد شراسة لحظة بلحظة، وليس ذلك

فحسب, بل تزداد قوة وقناعة أن هذا الرجل الغريب بحركاته وبهيئته التي أراه

فيها الآن، متكررة وكأنها منسوخة عن بعضها، وحيداً، منفرداً، نفس الحركات

وبنفس الوقت من كل عام، وبهذه الأيام التي أتحدث بها عن نفسي، وعن رتابة

الحياة في أسرتنا وبيتنا!! إنها متطابقةً تدغدغ الأحاسيس وتزيد الفضول فيّ لكشف

أسرارها إن كان لها ذلك !.

حدثت نفسي سريعاً بل وحاكمتها على عجل، وقلت في قرارتها: ولم لا؟!

فما أنا فيه اليوم غير ماكنت فيه قبل سنتين! أنا في الصف الثالث الثانوي،ومصنع

أميوتدبيرها شاركوني مثلما شاركتهم، وكنت أيضاً مجتهدة جداً؛ لأتعلم سريعاً,

وإن هذا الغريب الذي يمْثُل أمامي في هذه الساعة كنت أراه من قبل، وأسترق

النظر إليه، وهو  كعادته لايلتفت إلى أحد من حوله، أحسست في داخلي أنه

أول تجربة بمبادرة من نفسي ولأصنع شيئاً، وربما لاأجد أيَّ شيء.

 خاطبت نفسي مقررة قائلة: وليس لي غيرك يا أمي.

وسوم: العدد 680