سمر في أمريكا: فيها العبر
⭐ سمر هي امراة سودانية سافرت مع زوجها إلى امريكا، وقد كتبت في دفتر يومياتها ما يلي ❗
منذ فترة والندم يحيط بي من كل جانب، فقد اكتشفت مؤخراً أن أمريكا ليست الملاذ الآمن الذي كنا نبحث عنه أنا وعائلتي، وأن هجرتنا إليها بحثاً عن المال والسعادة والحرية لم تكن موفقة..
عندما حصلنا على الفيزا الأمريكية كنا نظن أننا حصلنا على كنز لا يقدر بثمن، وقد دامت هذه القناعة عدة أشهر فقط، بعدها انفتحت أعيننا على رؤية الحقيقة، وأدركنا أن هجرتنا إلى أمريكا ليست نعمة كما كنا نعتقد..
فقد تبين لنا أن الحرية التي يتشدق بها الأمريكيون هي حرية مدمرة، لأنها أقصت من حسابها أي قيمة لمعايير الدين وشريعة السماء، فهي لا تعترف بحلال أو حرام، وعمدتها الوحيدة هي قوانين بشرية، تحدد من خلالها ما هو المسموح والممنوع، ضمن أطر فضفاضة شعارها: أنا حر في أن أفعل ما أشاء، طالما أنني لا أمس حرية الآخرين.
فمن الحرية أن يلبس المرء ما يريد، ويعتبر خروجه إلى الشارع عارياً أو شبه عار أمراً مسموحاً به، لأنه لا يمس حرية الآخرين بسوء..
وله أيضاً أن يصاحب ويخادن من يشاء من النساء، والأرقام المرعبة لولادة أولاد دون أن يعرف أحد من هم آباؤهم تشهد لذلك..
بدأنا أنا وزوجي أمجد نشعر بالخوف من أن تلتهم حضارة الأمريكيين المبادئ التي ربينا عليها أولادنا عمر (15 عاماً) ونوران (14 عاماً) وراما (11 عاماً)..
في كل يوم أجلس مع أولادي وأحدثهم عن الإسلام وأقارنه بحضارة الغرب..
أبين لهم كيف وصلت الحضارة الغربية إلى الأوج في الأمور العلمية، فاخترعت المراكب الفضائية والحواسب الالكترونية والهواتف المحمولة والإنترنيت وغير ذلك، ولكنها بلغت الحضيض حين أهملت العناية بروح الإنسان، وجعلت كل اهتمامها منصباً على جسده..
البارحة كنت أكلمهم عن التفلت الجنسي لدى الغربيين، وهو أمر يراه أولادي بأم أعينهم، ويشهدونه في كل مكان، في الشارع والمدرسة والمحلات والحدائق، واستطردت إلى تبيين نتائج هذا التفلت، واصفة إياه بأنه أخطر من القنابل النووية، ففي حين راح ضحية القنبلة النووية التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي ما يقارب المئتي ألف قتيل، فإن ضحايا العلاقات الجنسية المحرمة بلغت الملايين..
أخبرتهم عن مرض الإيدز، وهو مرض مميت يلتهم الجهاز المناعي للإنسان، ولم يكتشف له العلم دواء شافياً حتى اليوم، وبينت لهم أن سببه الرئيسي هو الزنا الذي حرمه الإسلام كما حرمته جميع الشرائع السماوية..
سألتني نوران عن عدد هؤلاء المصابين بمرض الإيدز، فأخبرتهم بأنهم 70 مليون مصاب في العالم، توفي منهم ثلاثون مليوناً، بينما يعيش الأربعون مليون تحت وطأة الأمراض ويعانون الآلام والأوجاع، وينتظرون الموت، وهو المصير المحتوم لمرضى الإيدز..
ندت عن نوران صيحة رعب، وقالت بزهو:
الحمد لله على نعمة الإسلام..
رددت راما: الحمد لله..
لكن عمر لم يعلق بكلمة، فنظرت إليه، وكان ساهماً واجماً، وقد خيل إلي لبرهة أن انتقادي لحضارة الغرب لم يعجبه، ولكنني استبعدت هذا الخاطر، وعزوت ذلك إلى أنه يحن إلى بلده وأصدقائه، وأنه يعاني من مصاعب التكيف مع الوضع الجديد.
يبدو أن ابني عمر مغرم بحضارة الغرب حتى الثمالة، هذا ما اكتشفته منذ شهرين..
كان ذلك بالصدفة، حين كنت أقلب هاتفه المحمول لأنقل منه أرقام أقاربنا وأسجلها على هاتفي الجديد، الذي اشتريته بعد أن أضعت هاتفي القديم في الحديقة، فضغطت يدي على إحدى الأزرار بالخطأ، ففتُحت نافذة الصور، وأطلت منها صورة عمر، وهو يعانق فتاة شقراء في نفس عمره..
اعتراني الذهول ولم أصدق ما رأيت، ومن غير شعور مني رحت أقلب باقي الصور..
كان هنالك أكثر من عشرين صورة لعمر هو ونفس الفتاة الشقراء، وقد التُقطت بأوضاع مختلفة، وكان أكثرها إغاظة لي صورته، وهو يضمها إلى صدره ويقبلها..
أحسست بالأرض ترتجف تحت قدمي، فجلست على الأريكة واستسلمت لبكاء مرير..
لم يستطع عقلي المصدوم أن يهضم هذه الحقيقة المرة، فقد كنت أحرص على ان أربيه هو وأختيه على مبادئ الدين ومحبة الله عز وجل..
وعندما كنا في بلدنا كان عمر ولداً مثالياً يحب الله عز وجل، ويمتثل أوامره ويجتنب نواهيه، وكان دائم السؤال عن الحلال ليفعله، وعن الحرام ليجتنبه، ولكنه تغير منذ أن سافرنا إلى أمريكا، فلم يعد كسابق عهده يصلي، أو يقرأ القرآن، وكنت أهدئ نفسي وأعلل ما حل به من تغير، بأنه نزوة مراهقة، ولن تستمر طويلاً..
ولكنني بعد أن رأيت صوره مع تلك الفتاة، أدركت أنه لم يعد عمر الذي أعرفه وأفخر به، وأن هذا التحول لم يكن نزوة بل قرار..
أخبرت زوجي أمجد بالمستجدات، وعكفت وإياه على الجلوس مطولاً مع عمر، ولكنه ظل ثابتاً على موقفه، ولم تفلح معه الجلسات الحوارية التي كنا نعقدها، ولا النقاشات الفكرية التي كنا نجريها، واكتشفنا أنه مغرم بالحرية الجوفاء التي يدعو إليها الغرب، وأنه معجب بما فيها من عري وتفلت وورذيلة..
لم يشعر عمر بأي تحرج وهو يخبرنا عن انبهاره بأضواء الديسكوتيك الذي يجمع بين المراهقين والمراهقات تحت ضربات الجاز المجنونة، وعن مثله الأعلى في الحياة "الفيس برسلي" و" ما يكل جاكسون" و" مادونا" وغيرهم من أرباب الفن الساقط..
أدركت أنا وأمجد أن سفرنا إلى أمريكا كان أكبر خطيئة ارتكبناها في حق أولادنا، ونحن الآن نبحث عن مخرج، وندعو الله تعالى أن يهدي عمر، وأن يحفظ لنا أختيه نوران وراما، ويصرف عنهما السوء.. آمين
اليوم أسوأ يوم في حياتي..
وها أنذا أسجل أبشع معالم الحرية الغربية المزعومة..
فقد انتزعت منا المحكمة اليوم (باسم الحرية والديمقراطية) عمر، وهو ابننا الحبيب، وبضعة منا، ويحمل دماءنا ومورثاتنا، لتودعه في أحضان شخصين أمريكيين لم يعرفاه من قبل: السيد فريدز وزوجته، ليصبح عمر ابناً لهما بالتبني..
بدأت القصة حين قدمنا إلى المنزل ذات مساء، فوجدنا عمر يجلس في الصالون، وإلى جانبه صديقته الشقراء، وكانت تتكئ على صدره العاري، وكان عمر يقبلها ويمسح على شعرها بيد، ويمسك بيده الأخرى كأساً من الخمر..
لم يستطع أمجد أن يتحمل الموقف، فقد هاله أن يرى ابنه لا يقيم وزناً لحرمة المنزل ولا لهيبة الأسرة ولا لقدسية التعاليم الدينية، فارتفعت يده في الهواء تصفع عمر صفعة قوية، أوقعت كأس الخمر من يده..
لم يكن أمجد يبتغي أكثر من إيقاظ عمر، فقد كان يأمل أن ترده تلك الصفعة إلى رشده ودينه، وكان يظن أن الحزم والزجر سوف يعيدان إليه صوابه الذي ابتلعته أمريكا بأجوائها المحمومة..
تلقى عمر الصفعة بسكون وصمت، الأمر الذي جعلنا نظن أنه فهم الرسالة التي تحملها في طياتها، ولكن الحقيقة لم تكن كذلك، فبعد لحظات فقط اتجه عمر إلى الهاتف، واتصل بالشرطة، وأخبرهم بأن والده يعتدي عليه بالضرب، وطلب منهم النجدة..
في بداية الأمر ظننا أنها مزحة ثقيلة من عمر، أراد بها أن يمتص الموقف المحرج أمام صديقته، أو أنه تصرف طفولي ليس إلا..
وعندما سمعنا صوت صافرة سيارة شرطة تقترب من منزلنا، ونظرنا من النافذة فرأيناها تتوقف بجانب المنزل، فيترجل منها شرطيان، ويتوجها نحو منزلنا، أدركنا أنها لم تكن مزحة، وبعد دقائق فقط اقتيد أمجد وعمر، وبعبارة أخرى الجاني والمجني عليه، إلى قسم الشرطة..
لحقت بهما إلى هناك، فرأيت عمر يشتكي للشرطة ضرب أبيه له.. لم أصدق أن هذا هو ابني عمر، فقد كانت ملامحه متبلدة ومشاعره متجمدة، وأحسست به كأن عينيه من نحاس ووجهه من حجر..
كان أمجد يقف أمام الشرطي عاجزاً عن الكلام، فقد سرقت منه المفاجأة الصادمة كل قدرة على التعبير..
لم أجد أمامي بداً من الدفاع عن أمجد، فصحت بالشرطي بلهجة حانقة:
- إنه أبوه.. ألا يحق للأب أن يربي ابنه! لماذا تتدخلون في شؤوننا الأسرية!!
ثم توجهت صوب عمر، وقلت له باستعطاف:
- أخبرهم يا عمر أنه أبوك، وأنه يحبك، وأنه لم يضربك إلا بسبب خوفه عليك من الانجرار فيما لا تحمد عقباه..
أجابني الشرطي بتهكم:
- ألا تعرفين يا مدام أن ضرب الآباء لأبنائهم ممنوع مهما كانت الأسباب، وأنه يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون؟
انتفض أمجد في مكانه، وكأن مقولة الشرطي هذه أيقظته من دهشته وذهوله، فنظر إلى ابننا عمر نظرات حاول أن يشحنها بكل ما يمتلكه من عواطف جياشة، ثم تمتم بصوت متهدج:
- أظن أن ابني عمر سيسقط ادعاءه، ولن يدع أباه يزج في قفص الاتهام، ليحاكم كما يحاكم المجرمون..
هز عمر كتفيه بازدراء، وهو ينظر إلى أبيه بقسوة وحقد، ثم ردد دون تلكؤ أو خجل:
- لا لن أسقط الدعوى، وأنا جاد فيما أقوله، وليكن هذا عبرة لكل أب تسول له نفسه أن يضرب ولده أو يسيء معاملته..
لم أصدق ما سمعته بأذني، فهتفت باستنكار:
- ولكنه أبوك يا عمر.. أبوك..
قاطعني بلؤم:
- كان عليه أن يتذكر ذلك قبل أن يضربني.. أما الآن فلا فائدة من الكلام..
يومها رجعنا أنا وأمجد إلى البيت ونحن نشعر بالغضب واليأس والألم والحنق والأسى، أما عمر فقد تم الاحتفاظ به في مكان بعيد عنا، ريثما تتم المحاكمة ويصدر الحكم، لأنهم حسب قولهم يخشون أن نلحق به الأذى..
لم أستطع النوم في ذلك اليوم المشؤوم.. أفكار عديدة مقيتة استولت على ذهني المصدوم..
تذكرت ما أخبرني به عمر في الأيام الأولى من قدومنا إلى أمريكا:
- تصوري يا ماما.. الأساتذة في المدرسة يلقنوننا أرقام الشرطة، ويخبروننا أن علينا الاتصال بهم إذا تم ضربنا من قبل أمهاتنا أو آبائنا!!
عندها عقبت نوران قائلة:
- ونحن أيضاً يا ماما يعلموننا هذا، ويخبروننا بأن لنا الحرية في أن نفعل ما نشاء، ولو كان هذا على خلاف قناعات أهالينا..
لست أنسى ردة فعل راما الصغيرة آنذاك، إذ رفعت يدها وهزتها أمام وجهي، وهي تتظاهر بالانفعال قائلة:
- ماما.. أنا أحذرك.. إياك أن تضربيني.. وإلا فسأشتكي عليك..
ضحكنا جميعاً لهذه الدعابة، ولم أحملها محمل الجد، ولم أتصور أبداً أن هذا قد يحدث في عائلتي، فقد كنت أعتقد أن أولادي لا يكتالون بكيل هذه التعاليم الفاسدة، لأنني كنت، حسب ظني، أرشدهم وأعلمهم أن الوالدين في شريعتنا الإسلامية لا يعاملون إلا بالتقدير والاحترام والتقديس، وأنهما عندما يقسوان على أولادهما، فإنهما لا يبغيان من وراء ذلك إلا مصلحة أولادهم وفائدتهم.
بعد هذه الحادثة بعدة أيام، كانت المحاكمة الساخرة..
ذهبنا أنا وأمجد إلى المحكمة، وجلس أمجد في المكان المخصص للمتهمين..
وعندما صدر الحكم الجائر بسلب عمر منا وإيداعه لدى السيد فريدز وزوجته، ليصبح ابناً لهما بالتبني، صحت في قاعة المحكمة بلوعة:
- لا يحق لكم أن تأخذوا مني ابني.. فأنا من حملت به، وأنا من ولدته، وأنا من أرضعته وعلمته وربيته..
أجابني القاضي بحدة:
- ولكن زوجك خالف القوانين التي تحرم ضرب الأولاد، ولا بد أن ينال جزاءه..
عقب محامي الادعاء قائلاً بخبث ودهاء:
- على كل حال فإن السيد فريدز وزجته قد تعهدا بأن يكونا والدين صالحين لابنكما، وأقسما الأيمان المغلظة على ذلك..
أردت وقتها أن أرفع صوتي لأقول:
- ما هذه القوانين الخرقاء.. وما هذه الحرية الجوفاء..
ألا تعلمون أن هذه الحرية هي حرية الفوضى والدمار، لأنها تجعل من الابن سيفاً مسلطاً على رقبة والديه، وتقطع أواصر القربى وروح المحبة..
لكن كلماتي تاهت وصوتي اختفى عندما رأيت ابني الحبيب عمر يتوجه صوب السيد فريدز وزوجته، وهو يبتسم ويناديهما:
- أبي.. أمي.. أهلاً بعائلتي الجديدة..
فتحت المرأة ذراعيها، وقالت وهي تضمه إلى صدرها بحنان مصطنع بارد:
- أهلا بك يا جورج.. أنت ولدي الحبيب..
فأحسست بقدمي ترتجفان، وبجسدي يترنح يمنة ويسرة، ثم تهاويت على الأرض مغمى علي..
البارحة رجعنا إلى ديارنا أنا وزوجي وابنتينا راما ونوران..
لم يكن رجوعنا هذه المرة للزيارة فقط كسابق عهدنا، فقد صممت أنا وأمجد أن نقطع إقامتنا في أمريكا، ونستغني عن الإقامة (الكرين كارت) التي كنا موعودين بالحصول عليها بعد شهرين، وآثرنا أن نعود إلى وطننا الأم قبل أن تختطف منا أمريكا ابنتينا، كما اختطفت عمر..
كان ذلك بعد ثلاثة أشهر من إصدار المحكمة حكمها الجائر بانتزاع عمر من بين أيدينا، وتسليمه إلى عائلة أمريكية..
يمكنني أن أقول: إن اتخاذنا لقرار العودة ولد في ذلك اليوم المشؤوم، ولكننا تأخرنا في تنفيذه لأننا كنا نأمل باستعادة عمر، فقد وكلنا محامياً بارعاً، واستأنفنا القضية، ولكن ذلك كله كان هباء منثوراً، فقد ابتلعته أمريكا كما ابتلعت غيره من شباب المسلمين بوسائل مختلفة..
كان أهلي وأهل أمجد وبعض الأحباب والمعارف في انتظارنا في صالة المطار بشوق بالغ، فقد مضى خمس سنوات على آخر زيارة لنا..
وبعد عناق وقبلات حارة، بدؤوا يسألون عن عمر، ولم يكن أحد منهم يعلم بقصته بعد، فقد آثرنا تأجيل إخبارهم بما جرى لأننا كنا نطمح باستعادته من جهة، ولأننا لم نكن مستعدين نفسياً للخوض في هذا الموضوع من جهة أخرى..
حاولت تغيير مجرى الحديث، وقد رسمت على ثغري ابتسامة مصطنعة، وأنا أتجلد وأغالب نزول الدمع الذي بدأ يترقرق في مقلتي، أما أمجد فقد تظاهر بأنه منشغل في إحضار الحقائب..
لكن نوران أجابتهم ببراءة وعفوية:
- لقد غيّر عمر أباه وأمه.. ولم يعد اسمه عمر بل جورج..
ظنها الجميع نكتة ساخرة، فضحكوا ملء أفواههم، فلم أستطع أن أتمالك نفسي، وأنا أسمع أصوات ضحكاتهم، فأجهشت بالبكاء..
وعندما علموا بالقصة بكوا جميعاً، لأنهم يحبون عمر من جهة، ولأنهم يرثون لحالنا نحن المفجوعين بفلذة كبدنا وريحانة قلوبنا..
أنا الآن أقر بأنني أتعس إنسانة في الوجود، وأعتقد أن أية أم ثكلى هي أفضل حالاً مني، لأنها لن تلبث أن تنسى مصيبتها أو تتناساها، أما أنا فلا يمكن لي أن أنسى ابني الحبيب، وأنا أعلم أنه على قيد الحياة!!
أنا الآن أفتقد عمر، وألتهب شوقاً لاحتضانه وتقبيله..
طيفه الغالي متأصل في أعماقي لدرجة يصعب اقتلاعها، وهو يحرمني لذة الرقاد ونعيم الطعام والشراب..
لا يمكن لأي شيء في الوجود أن يواسيني ويعوضني عن فقده..
كل شيء يذكرني به.. السماء الزرقاء تذكرني بلون عينيه، والغيوم البيضاء تذكرني بالثلوج التي كان يتدحرج فوقها بفرح وغبطة..
كل زاوية من البيت تعيد ذكراه إلى مخيلتي رغماً عني.. فهنا كان عمر ينام، وهنا كان يلعب، وهنا كان يجلس ليشاهد التلفاز..
حتى الطعام الذي لا أتذوق منه إلا لقيمات بسبب حسرتي ومرارتي، فقد بات هو الآخر يذكرني بعمر... فهذا يحبه عمر ويشتهيه، وذاك يكرهه ويأنف منه..
معرفتي أنه على قيد الحياة، وأنني لا أستطيع تمتيع ناظري برؤيته يزيدني بؤساً وحسرة وشقاء..
أنا الآن أتمنى أن أدفع عمري لأراه وأحتضنه ولو لمرة واحدة فقط.. وسوف أبذل قصارى جهدي لتحصيل ذلك..
اليوم تأكدت أن ابني الحبيب عمر مات منذ سبع سنوات..
سبع سنوات من عمري أمضيتها في لهيب الشوق وحسرة الفراق وآلامه..
سبع سنوات كنت أحلم فيها كل يوم تقريباً بابني الحبيب عمر.. حلمت به مرات عديدة يطرق باب المنزل، ويهرع إلي وإلى أبيه يعانقنا ويقبلنا ويعتذر عما سببه لنا من آلام، ولكنني عندما أصحو كنت أكتشف الحقيقة المرة، فهو ما يزال في أمريكا مع أمه وأبيه بالتبني، وما يزال اسمه جورج..
حاولت في هذه السنوات السبع أن أكلمه على الهاتف، بعد أن استطعت الحصول على رقمه عن طريق أبناء الخير من أصدقائي في أمريكا..
أردت ان أمتع أذني بسماع صوته، وكنت أنوي أن أخبره بأننا نحبه مهما حصل، وأننا مستعدان لأن نغفر له كل ما فعل، وأننا اشتقنا إليه كثيراً، وكنت أنوي أن أطلب إليه وأرجوه أن يعود إلينا سريعاً لأننا لا نستطيع العيش دونه..
لكن محاولاتي جميعها باءت بالفشل، فقد كنت في كل مرة أتصل فيها يجيب السيد فريدز أو زوجته أو شخص آخر باللغة الإنكليزية، ويرددون:
الرقم خاطئ.. لا يوجد لدينا أحد اسمه عمر..
وعندما كنت أطلب الحديث مع جورج، كان الطرف الآخر يتلكأ ثم يدعي أن جورج خارج المنزل..
لم يحدث أن أجاب عمر بنفسه على الهاتف أبداً، أو هكذا كنت أظن..
بعد معاناة طويلة قررت أن أسافر إلى أمريكا للقائه، وقد وجدت الفرصة مناسبة لذلك حين وصلتني أنباء سارة عن تخرجه من الجامعة برتبة الأول على صفه..
لم يكن أمجد مقتنعاً بما أفعله، لأن عمر حسب رأيه شق لنفسه طريقاً مختلفاً، ولن يعدّل من قناعاته شيء، وكانت لدى أمجد تخوفات من أن يستقبلني عمر بنفس الجفوة والقسوة التي فارقني عليها، ولكنه لم يشأ أن يقف عائقاً بيني وبين تحقيق حلمي، فهو يعرف جيداً أن قلبي سيظل ينبض بحب عمر والاشتياق إليه حتى آخر رمق من حياتي..
من جهتي أنا فإن شعوراً قوياً كان يراودني بأن عمر نادم على فعلته، وأن معاناته من مرارة الغربة ولهيب الشوق لا تقل عن معاناتي، وأنه عندما يراني سوف يهرع لاحتضاني وتقبيلي..
لكن كل هذا لم يحدث، فعندما وصلت إلى مطار أمريكا لم يكن عمر في انتظاري، ولم يهرع إلي ليضمني ويقبلني ويخبرني عن أشواقه وآلامه كما كنت أتوقع وأحلم..
لم ألحظ صديقتي رغداء بين هذه الجموع المحتشدة لاستقبال أحبابها، فقد كانت عيناي تبحثان عن الحبيب الغائب..
اقتربت رغداء مني وتمتمت وهي تقبلني:
الحمد لله على السلامة يا سمر..
سألتها ودموعي تنهمر على وجنتي البائستين:
أين عمر يا رغداء، ألم تخبريه بأني قادمة لرؤيته؟
أجابتني بصوت متلعثم:
بلى.. لقد أخبرته منذ أسبوع.. وذكرته اليوم صباحاً بموعد قدوم الطائرة..
كان من المفترض بي في هذه اللحظة أن أدرك أن عدم قدومه إلى المطار لاستقبالي دليل قوي على إصراره على موقفه ورفضه للتراجع، ولكني لم أشأ أن أدرك هذا، ورحت أعلل غيابه بأن أمراً طارئاً حدث له أعاقه عن استقبالي..
وعلى ما يبدو فإن حبي لعمر وشوقي للقائه جعلني أنحي لغة العقل جانباً، وأسير بمقتضى لغة العواطف والمشاعر..
رجوت رغداء أن تصطحبني إلى بيته، فترددت وتلكأت، ثم رضخت أمام إصراري..
فتح عمر الباب، وبيده من كأس الخمر، وكان يلبس شورتاً قصيراً وقميصاً بلا أكمام، وقد ظهرت من وراء كتفه فتاته الشقراء، وهي تلبس ما يشبه مايوه السباحة..
لم يكن قلبه يخفق بحبي كما كنت أتأمل، ولم تسعد عيناه برؤيتي كما كنت أتوقع، وكان واضحاً جلياً أنه لم يكن هناك أي عائق يمنعه من الحضور إلى المطار لاستقبالي..
أردت أن أهرع إليه وأضمه وأقبله كما كنت أحلم.. أردت أن أقول له:
- اشتقت إليك يا حبيبي..
لكنني أحسست بلساني عاجزاً عن الكلام، وبجسدي متسمراً ومتوقفاً عن الحراك، فقد كنت أشعر بأن هذا الشخص الواقف أمامي شخص غريب عني، لم تره عيناي من قبل، ولم يعشقه قلبي قط..
كان عمر ما يزال واقفاً على باب المنزل، ينظر إلي نظرات متبلدة، حين صاحت به رغداء:
- ألا ترحب بأمك يا عمر.. وتدعوها للدخول؟
أجابها دونما اكتراث: اسمي جورج وليس عمر..
ثم نظر إلي نظرة متبلدة، وتابع يقول:
أهلا وسهلاً مدام.. تفضلي بالدخول..
ثم دخل إلى المنزل قبلنا، وهو يكمل حديثه التافه مع صديقته التافهة ويضحكان بصوت عال..
دلفت إلى المنزل بالرغم من أنني أدركت الحقيقة المرة منذ أن فتح الباب..
جلست دقيقة.. دقيقتين.. ثلاث.. عشر.. ولكنه لم يكلمني ولم يعرني أي انتباه.. وكان يقرأ مع صديقته مقالاً صحفياً، ويبدو من الصور العارية الملصقة على المجلة أنها مبتذلة..
وعندما حضرت الخادمة قال لها:
- أحضري للمدام كأس عصير.. أظنها لا تشرب الخمر..
ثم أردف وهو ينظر إلي نظرات جامدة كالصخر:
- أليس كذلك يا سيدتي؟
أجبته بحزم: لا داعي يا بني..
ثم وقفت وقد أمسكت بيد رغداء أجذبها، وأنا أقول بصوت تعمدت أن يكون مسموعاً:
- هيا يا رغداء.. يبدو أننا قد أخطأنا العنوان..
صاحت رغداء باستغراب:
- اصبري يا سمر..لا يمكن لك أن تقطعي كل هذه المسافة لتستسلمي في لحظات!!
اغرورقت عيناي بالدموع، وتمتمت بصوت حزين، وأنا أنظر إلى عمر وهو جالس على الأريكة دون أية مشاعر:
- زيارة القبر لا تحتاج لأكثر من بضع دقائق لقراءة الفاتحة..
لقد مات عمر حين ابتلعته امريكا منذ سبع سنوات.. والميت لا يعود مرة أخرى إلى الحياة.. وها أنذا اليوم أزور قبره يا رغداء..
خرجت من المنزل دون أن ألقي على عمر نظرة وداع.. خرجت وأنا اشعر بأني راضية بقضاء الله.. فإذا كان قد سلبني عمر، فإنه سلم لي أختي عمر.. نوران وراما، وهما الآن أحوج ما يكونان إلى عطفي وحبي ورعايتي..
اليوم أسجل في دفتري مأساتي الأليمة، وأنا مقتنعة تماماً أنني قد سددت آخر دفعة من فاتورة الحساب..
أتدرون أي حساب هو؟ إنه حساب التغرب في بلاد العهر والمجون والانحلال..
ويا له من حساب!!!!
وسوم: العدد 687