يا أم عماد .. هل تدركين؟!
كنت تجلسين إلى المنضدة الصغرى إلى اليمين..
وكنتُ أجلس إلى المنضدة المستطيلة وسط القاعة.. ولا يعنيني من كان يجلس إلى سائر المناضد من خلفي أو عن يساري..
أما قلبي .. فقد كان استقرَّ هناك خلف المنضدة المستعرضة التي تواجهنا جميعاً.. كان ذلك منذ سنوات..
كنتِ شقراء الشعر..
وكنتُ لا أعرفك..
لكنني رأيتها تُصافحك وتميل برأسها تاركةً للشفاه أن تطبع قبلاتها على الخدود.. ثم غادرت لتوزع مودتها على كل من حضر تلبيةً للدعوة وكنت أراقب ذلك بصمت، أختزن كل الصور التي تتوالى أمامي.. وعلمتُ أنك أم عماد.. وفُتات أخبار عنك لا تشكل رغيفاً ذا هيئةٍ يُعوَّل عليها.. لكن الذي أجده الآن – رغم هذه السنين – أنكِ كنتِ سخية، ليس في مالك وحسب.. ولكن في عواطفك أيضاً.. وكنتِ ساذجة مثلي.. تحبين.. فتعطين بلا حساب.. هكذا يكون العاطفيون دوماً.. يعطون بلا حساب!!
لماذا أستحضر صورتك الآن – رغم مرور هذه السنين المحملة بأوجاعها؟ - لماذا؟! لأقول لك؟! لأقول لها؟! .. وماذا سأقول؟! كلمة واحدة تحضرني الآن.. والآن فقط: بدأت قبضتي على السر الدفين تتراخى .. هل تدركين معنى أن تتراخى قبضتي عن السر الدفين؟!
كنت أود من كل قلبي لو كنا ثلاثة: أنا.. وهي.. وأنتِ..
ليس شرطاً أن تكوني الكبرى.. فموضوعنا لا علاقة له بالسن لا من قريب ولا من بعيد، فحسبك أن تعلمي بأنني أكبرها بتسعة عشر عاماً يوم أن عرفتها أول مرة.. أما اليوم.. فأنا أكبرها بخمس سنين فقط.. فرق طبيعي!!
ونحن – أقصد أنا وهي – لا نحتاج عندك الحكمة التي تلدها السنون والتجارب.. حقيقةً لسنا في حاجة إلى شيء من هذا.. لكن الذي نحتاج إليه بصدق، حضن يعرف بعمق مشاعرنا، ويؤمن لنا مقعدين منفردين خلف زجاج يطل على رحب لا تدرك مداه عينٌ، ولا تحده سماءٌ تنتهي لتُشكل مع الأرض أفقاً نقول: هذا نهايتنا التي لا تلبث عواطفنا أن تصل إليها..
كنا نحتاجك إذ يكون قلبك مخزناً للأسرار، قابلاً للسماع والكتمان.. بغض النظر عن الفرح والتوجع.. دعي هذا لنا – أقصد أنا وهي – حتى وإن كان الوجع قد حصد كل الفرح الذي كان، وخلَّف وراءه رماداً بارداً مُهيئاً للريح إذا هبت فتسفوه في العيون حتى تحيل الحياة إلى عمىً لا حدود له..
في البدء كانت نظرة..
وكنتُ أنا الناظر..
لكنك لا تدركين كيف انعجن القلب، وأعيد تشكيله من جديد..
ومع أني كنتُ حذراً، والساحة أمامي ممتدة، مستريحة.. كراحة الكف الأقرب إلى عيني.. لكنني وقعتُ.. كيف؟! حتى الآن.. لا أدري!
خذيني من يدي.. أدخليني إلى مكان دافئ يملك القدرة على تحمل بوح قلبي.. فأنا على وشك الإغماء.. قالوا: إذا لم يتحمل العقل الألم.. غاب.
غيبوبته نوع من التوازن الجسدي حتى لا تنفجر أشياء أخطر لم تكن في الحسبان..
هل غيبوبة عقلي الآن.. وهذا الصمتُ الطويل .. نوع من التوازن يغمضه جسدي عليَّ حتى لا ينفجر شيء في مكان ما لم أحسب حسابه؟! ربما..
ربما..
لكن الذي بتُّ أحسه – في غيبوبة الصمت هذه – أن يدي بدأت تتراخى.. قلت لها ذات سطرٍ: "ما أصعب الكتمان إذا كنت في الخندق وحدك"...
هواجسك..
الضغط المستمر على رجولتك..
التحدي السافر لقلبك..
مساومتك على مروءتك..
كلها.. صواعق في مكانها، لا أدري متى يُسحب ذراعها فيحدث الزلزال المدمر.. والزلزال المدمر عندي في بضعة أحرف يخطها قلم في غفلةٍ من عقلٍ.. مسوقاً بسوط عاطفة هوجاء وقديماً قيل: "لا تُبصر الغيرى أسفل الوادي".
في البدء كانت نظرة..
وكنتُ أنا الناظر..
ثم سافرنا في هموم أولادنا.. وغبنا ثلاثة أشهر، قد تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً.. أيامها.. لم تكن عندنا رغبة في معرفة الأيام ولا حساب التواريخ ولا تدوين الوقائع.. لكن في الأول من تموز – أذكره كأنه البارحة – من تلك السنة، السنة التي قد يغيب التاريخ كله منذ أن خلق الله آدم إلى أن يرث الأرض ومن عليها، إلا هذه السنة، فإنها لن تغيب، لأن الحمل والولادة كلنا فيها..
في الأول من تموز جلسنا تحت الشجرة على مرتفع قربنا من السماء أكثر.. لم نُفق إلا وأكفنا الأربعة في عناق عجيب، وظهرها كان قد التصق ببطني.. كيف تم هذا؟! اليوم.. أقول: لا أدري.. كنا في غيبوبة..
آخر يوم في تموز – من السنة نفسها.. لا .. بل الشهر ذاته – جلسنا في المكان نفسه.. لكن القلب كان قد تبدد في رعشاته، ولم يستقر حتى مدت يدها تحت الثياب.. نعم تحت الثياب.. فألصقت راحتها بضلوعه؛ فاستقرَّ هذا الموجوع حباً ووجداً..
يومها .. كانت القُبلة..
التوقيع بالاعتراف من كلينا على تدشين هذا الحب..
واقترحت يومها أن نغير المكان .. واقترحت الطريق.. واقترحت المكان الذي يصلح لتأكيد هذا التدشين بمزيد من القبلات..
وذهبنا..
وتوغلنا بين الأشجار..
لكنني خفت ..
هل جربت الإحساس بأن تخافي على إنسان أكثر مما تخافين على نفسك؟! ..
إن كنت جربته!! تكوني قد خطوتِ أول خطوة لمعرفة الحقيقة.. الحقيقة التي لا يخدمها الظاهر المفتعل الآن..
ما بين الأول والآخر من تموز - من السنة نفسها – لم أكن على الأرض..
هل تدركين معنى ألا تكوني على الأرض بفعل حب إنسان ما؟! أنا عشت التجربة بكل خدرها .. ومنعتها .. وذهولها..
كان حباً.. لم يكن شهوة..
كان حباً..
ألغى كل المواضعات التي تواضع الناس عليها، وألقاها في جُب لا تراه العين، فما بالك بالعقل؟
العقل الذي لم يخطر على باله أن تكون امرأة كسائر النساء.. تمرض.. تعطس.. يسيل أنفها.. تدخل الحمام.. تخلف وراءها رائحة كريهة.. لا .. لا..
هل كان يتصور أنها ليست من هؤلاء النساء اللاتي يعرفهن الناس؟! ربما كان لسؤالها الأول لي عن الحور العين – ذلك السؤال الذي كان وسيلتها للاختلاء بي – السبب في أن أتصورها هكذا..
ربما..
ربما..
لكنه كان حباً فريداً..
ولم يكن شهوة..
هل تتصورين.. أن قلبي – وأنا أكتب لك الآن بعد كل هذه السنين.. أكتب لأحكي لك ما كان.. ومع ذلك يرف ذلك الرفيف الذي أوجعني يوم أن عطَّرتْ ورقة من عطرها وقربتها من أنفي.. وغنتْ لي يومها: "بحياتك يا ولدي امرأة".. كاد يتمرد على رفيفه وارتعاشة قلبي فيتوقف إلى الأبد.. خمدت يدها لتسكنه..
ودعتْ عليّ بالموت..
ومتُّ في هواها..
وبدأت الحياة تتلون بشيء عجيب.. كنا كل ثانية نشعر أننا الأقرب.. وتهاوت كل الأسوار بيننا.. فاطّلعنا على ماضينا.. وعلى رعشاتنا العلنية والسرية!! وكل منا أخذ الآخر من قلبه فأدخله عالمه الخاص بكل حميميته وأسراره.. حتى التي لا يبوح بها لأحد على الإطلاق.. ولا للأزواج..
باح بها للآخر..
وكنتُ أنا الآخر..
هل ستة أشهر من عمر الزمن كافية لأن تكتشف مدينة مترامية الأطراف، ومغارات لا نهاية لها من الأسرار، وتعبر مغاور يهلك فيها المدربون.. لكن القلبين جازاها معاً!! أفكر في ذلك – اليوم – فأعجب للقدر الذي خطط لنا، حتى ذُبنا في كيان واحد..
لو قلتُ ذلك لأحد ممن نلتقيهم في عصاري السبت ما صدق؟.. وكيف يصدق أنَّ في هذه القاعة الرحبة قلبين يضطربان وإنْ استعار الوجهان ثوب الجليد فاكستياه.. لولا خائنة الأعين، وتفلت الأصوات المفتعلة.. رسائل خفية لا يدركها في هذا الزحام إلا هما..
ويخرج مبكراً دوماً.. فكفاه من الوجع رُبعه.. وباقي الوجيب للطريق.. ويكون ظهرها إلى الجدار.. الجدار الذي لا يحجب سفر القلب، وكشف دخائل لا يعرفها إلا هما..
ها هو ذا الزمن يفعل فعله.. استترت عيناها خلف نظارة طبية .. وتغير الوجه – الوجه الذي لم أره ولكن أحسه – وهل تغيب عني تضاريس عبرتها شفتاي عشرات المرات؟!
بالأمس.. كانت تعمل صيانة لأسنانها!! هكذا قال لي – ذات يوم سآتي على ذكره فيما بعد – دون أن ينتبه مكسور القدم لما يقال!!
واليوم .. بعد أن فعل الزمن فعله في كلينا.. تقلصت السنون بيننا.. أكبرها اليوم بخمس سنين فقط!! إن كنتِ لا تدركين السبب فاسألي أوجاع الجسدين.. ولا تغفلي عن أوجاع الروحين.. وقد تخطى كل منا منتصف العمر.. وبدأ الانحدار إلى النهاية.. مع الفارق!!
.. قلة من يفهمون هذا المعنى.. والكثرة الكاثرة كالقطعان تسير خلف جرس يصلصل في عنق كبش عتيق لا يملك جسده المستتر خلف ضخامة كاذبة إلا أن يحمل الجرس بغير إرادته كان..
وتُساومك على رجولتك!!
وتقاوم أنت الجذب إلى حظيرة كباش تخلت عن مهمتها..
وترفض أن تلبس ثوباً ليس لك..
أو تحمل لقباً تلقَّاه الآخرون بامتنان عظيم..
لكن الآخرون كذلك.. أما أنا فلا.. وألف لا..
أعجب للمرأة التي تسعى لأن يكون الرجل خاتماً في إصبعها، غاية ما يصبو إليه أن تديره في الإصبع ذاتها.. وتخلعه إذا أرادت أن تُقسم على الوفاء.. وتعود إصبعها لاختراقه إذا قدم المساء.. يا أم عماد.. في فمي ماء.. هل تدركين عذاب من كان في فمه ماء؟!
رفضتُ إلا أن أكون أنا.. وليرضَ الآخرون أن يكونوا كما تشاء، فالدياثة سوق لا حدود لها، فقط.. عليك أن ترضى وتبصم.. ولتشرب من عرق الهوان ما شئت بعد ذلك، وإن كان مخلوطاً بالسكر والعنبر.. وتَنَعّمْ!! فالوعود كما كانت تدلق بسخاء.. والطريق أمامك واضحة.. والطابور الذي سبقك.. والُمصْطَفّون خلفك ينتظرون دورهم الذي رسمته وخططت له، وهي تردد THE NEXT
قد يتحمل الجسد الموغل في غوايته "نكسات" كثيرة .. تعبره .. تدوسه..
قد يصعد..
قد يسعد..
ولكن إلى حين..
فماذا عن الروح؟!
ماذا عن غلالة العفاف التي يستتر وراءها جسد قبيح؟! ماذا عن تمرد "النكسات" والعروج إلى التصريح؟!
أو حفر كلمات لا تبددها الريح؟!
ورفضتُ أن أكون "ذا نكست" وكان إصراري أن أكون أنا.. لا صورة مكررة من غيري..
أنا..
أنا.. بطعمي المر كالعلقم.. بمذاق العسل الذي فيّ.. وعليك أن تدرك دربك.. وهكذا المتفردون الذين يأبون النمطية .. وتبقى صورتهم بصمة لا تمحوها الأيام.. وتجربتهم – إذا مرت بك – ندبة لا يقوى الجسد على إلغائها .. وجرب!!
كيف أجرؤ على هذا الجسد المعبود وأغادر!!؟ كيف أجرؤ أن أكون أنا الهاجر؟!! أعاذك الله أم عماد.. فُتح عليَّ من النار ما لا يخطر على بال..
كنت أظن أن الغيرة تولد وتطفأ في لحظة نزق عابرة، ثم تتحول إلى رماد تذروه الرياح، لكن عجبي أن أُطعن في الظهر من يد لطالما ذابت وجداً في يدي، ودبّت هياماً تبحث عن دفء جسدي.. وأعجب من ذلك أن يلعق الدم النازف من جرح قلبي لسانٌ ذاب ذات قُبلة في فمي.. كم من الوقت مرَّ ونحن في غيبوبة؟!
اسأليني .. لا أدري.. اسأليها.. لا تدري.. ووقع الخدُّ على الخد اعترافه ومضى.. ومع ذلك – والأعجب للمرة الثالثة – أن الخنجر ما زال في ظهري إلى اليوم .. لم تحاول تلك اليد أن تنزعه.. لعل الندم يرقأُ.. والجرح يبرأُ.. لكنها "سادية" مُمعنةٌ في القهر.. ويستمر الوجع.. ويبقى النزف.. والأعجب من ذلك كله – لا للمرة الرابعة.. بل حتى للمرة الألف – أن تتباهى امرأةٌ بالغدر.. وتدور في المحافل تتحدث عن الزيف..
ليتها كانت ضربة سيف!!
لكنها طعنة من الخلف..
هل تدركين وجع الطعنة من الخلف؟!
وها أنا ذا أعترف لك – في لحظة خوف -: قبضتي بدأت تتراخى.. أصابعي تتمرد عليّ، والقلب الذي أنهكه النزف لم يعد فيه قدرة على كبح تمردها .. ولا يقف سداً في وجهها.. ليتك كنتِ ثالثتنا..
- تمت –
وسوم: العدد 687