ما بين قسوة إنسان وحنية آخر
في عتمة ليل بريطانيا الشديد البرودة ، وقطرات المطر تضرب شباك حجرتها ضرباً مبرحاً ، كسياط تنهال على جسد مجرم ، جمعت (آلاء) حطام نفسها وكورت جسدها الضئيل واحتضنت جنينها الحبيب محاولة منها الخلود إلى نوم عميق ، حيث لا تفكر بالغد ولا ما تحمله الأيام من آلام المخاض والولادة ؛ وهي بعيدة عن البلاد وعن الوالدين وعن الأهل ؛ حتى زوجها قال لها قبل أن يغادر البيت ليسافر إلى عمله :
ـ لا تقلقي يا آلاء فقط اتصلي بجارنا المصري وسوف يقوم بالواجب هو وزوجته معك ..
أمسكت بتلابيب قميصه متوسلة :
ـ يا (طارق) هذه أول ولادة لي ، وأنا لا أتقن اللغة هنا ، وما عندي أهل ولا أقارب ..
إلا أنه انسل من بين يديها الصغيرتين متهرباً قائلاً بغضب :
ـ وماذا أفعل ؟ هذه سفرة مهمة ، يأتي من ورائها كومة من المال .. لا تكوني مائعة كوني تلك المرأة القوية الذكية ، أنت بنت أستاذ كبير وعبقري ، خذي من قوته وشخصيته ..
وتركها وسافر .. وحيدة في البيت المزروع في بناية ضخمة ، جارها المقابل لها إنسان ممتاز هو وزوجته ، لكن الباقي كلهم سكيرون عربيدون ..
شعرت بآلام في بطنها عنيفة .. جعلها تستيقظ .. تجاهلت الأمر .. ولكن الآلام ازدادت .. بدأ الخوف الأنثوي يسري في بدنها .. الطبيب أنبأها أنها على وشك الولادة في أي لحظة .. وهي فتاة في السادسة عشرة من عمرها .. لم تفقه بعد شيئاً من أسرار النساء ولا خفايا الطب النسائي .. شعرت بأعراض المخاض الأخرى .. قفزت من مضجعها مذعورة ، هرولت نحو معطفها الثقيل وحجابها الوردي رغم قساوة بريطانيا على الغرباء ، وأسرعت نحو منزل جيرانها تقرع الباب قرعاً طفولياً قلقاً ، ما لبث حتى فتحت (أم ياسر) الباب متنبئة بأن الطارقة في هذه الليلة أمر طارئ وليست سوى (آلاء) ، وخلال دقائق كان (العم أبو ياسر) يحمل حقيبة (آلاء) وينزل الجميع إلى السيارة ليطير هذا العم الحنون وزوجته إلى مشفى الولادة ..
تمت الولادة بصعوبة بالغة ، الأم صغيرة جداً ، لا تتقن لغة اللسان ولا الجسد ، منفعلة ، تبكي من أدنى كلمة أو ألم ، لم تستطع أن تساعد نفسها وتساعد جنينها ، حتى تناولتها رحمة منه وحده رب العباد لتنهي مأساة الصغيرة والجنين .. وولدت (فاطمة) بجمال عربي باهر ، خطفت قلوب الكادر الطبي كله ، وسرقت القلوب بجمالها ، بنت صغيرة لكنها موفورة الصحة وكأن عمرها شهر لا دقيقة ، شعر أسود غزير طويل ، عينان سوداوان دعجاوان عربيتان ، لهما رموش طويلة يسبح الخلاق جمالهما ، فم دقيق صغير أحمر ، أنف رسم بريشة فنان ، بيضاء ، الثلج بشرتها بلونها وصفائها ، ضمتها الطفلة الأم وبكت ، وحدها وضعت طفلتها .. وبعد انتهاء الإجراءات الطبية وجدت (آلاء) نفسها في حجرتها بالمستشفى وحيدة .. تحدث إليها زوجها بالهاتف بضع كلمات ثم عاد لدنياه يلاحق النقود ، مخلفاً وراءه جرحاً دامياً في قلب الأنثى الأم والأنثى البنت سيظهر أثره فيما بعد .. هو الآن في نشوة الشباب والقوة والمال ، لكنها عجلة الحياة التي تدور لتذيق كلاً منا كأساً بنفس طعم ما أذاقه لغيره ..
في الليل تستيقظ الآلام ، تتنبه الحواس ، ويبدأ القلب يشعر بالوحدة ، يشعر بالحزن القديم يتسرب إلى قلبه فيصيبه ببرد قاتل يجمد فيه النبض ، ويوقف الدم في العروق ، فتنزل الدموع حرى لعلها تعيد للقلب الحياة وللدماء التدفق .. بكت (آلاء) كما لم تبك من قبل حتى سمعت الممرضات صوت نحيبها ، خفن من المسؤولية القانونية ، ركضن نحوها ، يسألنها عن السبب ، ولكنها حورية صماء خرساء ، لا تفهم ما يقولون ، ولا يفهمون ما تقول .. تذكرت إحداهن وقد تفطر قلبها على تلك الصغيرة الأم ، أن طبيباً عربياً في المشفى الآن ، إلا أنه يقوم بعملية قيصرية لإحداهن .. انتظرت الممرضة حتى انتهى من عمله وكانت تنتظره عند الباب وما إن خرج حتى تمسكت بتلابيبه وقالت بلغتها تستنجد به ليساعد تلك الصغيرة الأم ..
أحس هذا الطبيب العربي بلهفة وحزن تجاه تلك العربية المهجورة في الغربة ، على الرغم من متاعب عمليته إلا أنه لبى نداء الإنسانية ودخل حجرة (آلاء) ، وجدها متكورة حول نفسها تجهش ببكاء حار ، اقترب منها وتساءل بلهفة :
ـ يا بنتي فيك شيء ؟ يا صغيرة هل بطنك يؤلمك ؟ هل عندك مضاعفات ؟ تكلمي ..
قالت الصغيرة ببراءة :
ـ اشتقت لأمي وأبي ، اشتقت لحضن أختي الصغيرة ، أريد زوجي بقربي ، جارتي تعبت وغادرت ، أنا وحيدة ..
أمسك بيدها يحبس دمعة رجل إنسان :
ـ أنا معك يا بنتي ، ولن أدعك حتى تنامي بهدوء ، وعندما تضيق بك الدنيا اعلمي أن لك أباً في هذه البلاد وهو أنا .. سامح الله أهلك على زيجتك بهذا العمر ، وأصلح زوجك الذي تركك ريشة ضعيفة في البلاد القاسية هذه ..
واستمرت إنسانية الطبيب معها حتى صار عمر تلك الصداقة ثلاثين عاماً ، واستمر جبروت الزوج وإهماله حتى صار عمر جبروته ثلاثين سنة أيضاً . وعجلت الزمان كالطاحون لا تنتظر أحداً ..
وسوم: العدد 687